سالم الركابي (الموقع الخاص): يتداول الكثيرون عن روايات تتعلق بمنع الحج وأنه علامة من علامات الظهور، وهناك من يستدل على ذلك بحالات منع المعتمرين من الوصول إلى البيت الحرام الآن بسبب فايروس الكورونا.
الجواب: توجد روايات عن منع الحج في كتب العامة والخاصة، ولكن هذه الروايات لا علاقة لها بعلامات الظهور، وإنما من مجموع ما يذكر في طياتها من تفاصيل ما يؤكد أمراً قد حصل في أيام الدولة العباسية، فلقد روى سدير الصيرفي قال: كنت عند أبي عبد الله جعفر بن محمد عليهما السلام وعنده جماعة من أهل الكوفة، فأقبل عليهم وقال لهم: حجّوا قبل أن لا يحجّوا. حجوا قبل أن يمنع البر جانبه. حجّوا قبل هدم مسجد في العراق بين نخل وأنهار. حجّوا قبل أن تقطع سدرة بالزوراء نبتت على عسل عروق النخلة التي إجتنت منها مريم عليها السلام رطباً جنياً، فعند ذلك تمنعون الحج، وتنقص الثمار، وتجدب البلاد، وتبتلون بغلاء الأسعار، وجور السلطان، ويظهر فيكم الظلم والعدوان، مع البلاء والوباء والجوع، وتظلكم الفتن من جميع الآفاق. [أمالي الشيخ المفيد: 65 م7 ح10].
وقد ذكر علي بن اسباط في نوادره عن الإمام الصادق عليه السلام قوله: الهرب الهرب إذا خلعت العرب أعنّتها، ومنع البر جانبه، وانقطع الحج، ثم قال: حجّوا قبل أن لا تحجّوا. [الأصول الستة عشر: 131ــ132].
وقد ورد ذكر منع الحج في كتب العامة فروى الدارقطني بسنده لأبي هريرة عن رسول الله صلوات الله عليه وآله قوله: حجّوا قبل أن لا تحجّوا! قيل: ما شأن الحج؟ قال: تقعد أعرابها على أذناب أوديتها، فلا يصل إلى الحج أحد. [سنن الدارقطني 2: 264 ح2769] وقد روى البيهقي في سننه قريباً مما ذكر الدارقطني. [سنن البيهقي الكبرى 4: 341]
ونقل السيد ابن طاووس فيما نقله من كتاب الفتن للسليلي وهو من علماء العامة رواية بسنده لعبد الله بن عمر أنه قال: هدم المنافقون مسجداً بالمدينة ليلا، فاستعظم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: لا تنكروا ذلك فإن هذا المسجد يعمر، ولكن إذا هدم مسجد براثا بطل الحج قيل له: وأين مسجد براثا هذا؟ قال: في غربي الزوراء من أرض العراق صلى فيه سبعون نبياً ووصياً، وآخر من يصلي فيه هذا (وأشار بيده إلى مولانا علي بن أبي طالب عليه السلام). [الملاحم والفتن: 117].
هذه عمدة ما روي في هذا الجانب، والروايات على اختلاف ألفاظها ومصادرها وأسانيدها إلا أنها تدلّ على أمر واحد، فالرواية الأولى تتحدث عن ترابط زمني بين حدثين وبين منع الحج، وقد وصفت الرواية حادثة: قطع السدرة التي نبتت على عسل عروق النخلة التي أكلت منها السيد مريم عليها السلام رطباً جنياً، وكذلك حادثة: هدم مسجد بالعراق بين نخل وأنهار، وبين قضية منع الحجّ، ومن المحقق أن السيدة مريم عليها السلام حينما أكلت رطباً جنياً إنما كان في موضع جامع براثا كما هو مفاد العديد من الروايات، ولذلك تسمي هذه الروايات بئر الماء الذي في الجامع بأنه بئر مريم وبعضها تطلق على الجامع وصف أرض مريم، ومن الواضح أن قطع سدرة من هذا القبيل، لا بد وأن يعود لعمل فيه الكثير من الغضب أو الحقد، وإلا لا يتصوّر قطع شجر السدر والنخيل من قبل القائمين على أمر هذا الجامع، خاصة مع وجود الروايات التي أحاطت الجامع بهيبة خاصة وقداسة أخص عند شيعة أهل البيت عليهم السلام، وفيها الحديث عن هذا النخيل، ومن المحقق تاريخياً أن السنة التي تعرض فيها المقتدر العباسي بدسيسة الحنابلة ببغداد إلى الجامع وهدموه وأحرقوا نخيله وأشجاره، وذلك في سنة 313 للهجرة في السادس من صفر كانت هي نفس السنة التي منع فيها القرامطة على يد أبي طاهر الجنابي الحج على بغداد والكوفة وخراسان وكان يعسكر خارج الكوفة. [انظر المنتظم في تاريخ الملوك والأمم لابن الجوزي 13: 247ــ249.] وقد استمر منع الحج لثلاث سنوات متتالية ولم يعد الحج إلا بعد أن عاد أبو طاهر الجنابي لبلده وفتك جيش العباسيين بمن تبقى من جماعته في عام 316 للهجرة. [المنتظم 13: 272ــ273].
يبقى أن أشير إلى أمر مؤسف وغريب حقاً وقد تكرر مثيله مراراً إلى وقوع إضافة على هذه الرواية أثبتها أحد المؤلفين المعاصرين، ونسبها إلى المعصوم مع وضوح أنها ليست من أصل الرواية بل هي إضافة غريبة تماماً في لفظها وفي سياقها عن الرواية، وذلك حينما ذكر عبارة: قبل أن يمنع الغربيون الحج، وقد وضعها قبل عبارة: "فحجّوا قبل أن يهدم مسجد بالعراق" [انظر بيان الأئمة 1: 295] وأنا أؤكد بأن العبارة مدسوسة على الرواية يقيناً، لأسباب لا أعلم بها، ومع حسن الظن بالمؤلف غير أن هذا الأمر تكرر منه بطرق عديدة في طيات الكتاب وللأسف الشديد.
أما حديث علي بن أسباط عن خلع العرب لأعنتها، فهو بالفعل كان حالة انفلات بسبب ما فعله القرامطة في تلك الفترة، وكانت مكامنهم في الغالب في الصحارى والأودية قبل أن يستولوا على المدن ويستبيحوها، ولكن المعروف عنهم أنهم لم يستوطنوا داخل الكوفة وإنما كانوا يستقرون خارجها، وهي نفس السنوات التي تحدثنا عنها، وحديث الإمام عن منع البر جانبه، يعني أن القوافل كانت تمنع من جهة الطرق البرية، ويراد بها الطرق التي تلي طرق المدن والحواضر.
أما حديث الدارقطني والبيهقي فمؤداه نفس مؤدى الأحاديث السالفة، وما ذكر عن أذناب الأودية هو نفسه الذي ذكر بشأن الطرق البرية.
وحديث السليلي عن ابن عمر الذي نقله السيد ابن طاووس في الملاحم والفتن، فوضوحه لا يحتاج إلى بيان، كما لا يخفى
وقد ذكر السيد ابن طاووس (قدس الله سره) في كتابه اليقين حديثاً مطولاً بين الإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليه، وبين حُباب الذي تصفه الرواية بأنه هو الذي كان يسكن في موضع جامع براثا، جاء فيه: أما أنه يا حباب ستبنى إلى جنب مسجدك هذا مدينة، وتكثر الجبابرة فيها ويعظم البلاء حتى أنه ليركب فيها كل ليلة جمعة سبعون ألف فرج حرام. فإذا عظم بلائهم سدوا على مسجدك بقنطرة (في البحار والنسخة القديمة من اليقين: بفطوة، والفطو هو السوق الشديد، وفي بعض النسخ: بفطرة، وكلمة قنطرة من تصحيحات محقق كتاب اليقين، ومهما يكن فالعبارة غير مفهومة فالقناطر لا تبنى على المساجد وإنما تبنى على الأنهار، والنهر بعيد، وليس من دلالة في الرواية على أنه سيبنى إلى قربه جسراً، فاللغة العربية فيها سعة كبيرة ليتكلم بها من أوتي قدراً من البيان بأجزل من ذلك، فما بالك بأفصح أهل الدنيا أجمعين؟) ثم وابنه مرتين ثم وابنه (هذه العبارة فيها تصحيف شديد، فمعناها وفق ما مكتوب لا يفضي إلى أي معنى مفهوم، نعم ذكر المرحوم السيد حسن القبانجي أن العبارة ربما كانت وابنه بلبن [انظر مسند الإمام علي عليه السلام 3: 350]) لا يهدمه إلّا كافر، فإذا فعلوا ذلك منعوا الحج ثلاث سنين، واحترقت خضرهم وسلّط الله عليهم رجلاً من أهل السفح لا يدخل بلداً إلا أهلكه وأهلك أهله. [اليقين باختصاص مولانا علي عليه السلام بإمرة المؤمنين: 422ــ423 ب157] والرواية من حيث المبدأ لا تختلف عن سابقاتها من حيث الدلالة، ولكن وقع في كل الرواية اضطراب كبير، ودمجت بأخبار عن السفياني على طريقة التهويل العامية التي يخلو منها حديث اهل البيت عليهم السلام، مما يوحي للبعض بأن المنع من الحج يكون قريباً من عهد السفياني، والحال أن نسخة الرواية التي عبر عنها العلامة المجلسي بأنها نسخة سقيمة فقال: اعلم أن النسخة كانت سقيمة فأوردت الخبر كما وجدته. [بحار الأنوار 52: 219] فيها تداخل كبير واضطراب كما نوهت من قبل، وهي من روايات العامة، وقد تفرّد بها السيد الجليل مع ما نسب إلى أن المحدّث المشهدي صاحب المزار قد رواها (ولم أتبينه)، وفي سندها كلام لا يقل عن متنها.
وخلاصة الكلام أن الحديث عن منع الحج الوارد في الروايات لا علاقة له بعلامات الظهور، وإنما هو شأن حصل على أيام القرامطة، واستمر لثلاثة سنين فحسب على ما أشرنا، وقد سبق لهؤلاء أن سرقوا الحجر الأسود من مكة ونقلوه إلى هجر (البحرين) عام 317 بأمر من أبي طاهر الحسن بن سليمان الجنابي وغيّبوه هناك ولم يعيدوه إلّا في عام 339، ولا يوجد في كتبنا الروائية أي حديث آخر عن منع الحج.
هذا ما عنّ لنا من جواب في شأن منع الحج، وكل ما يجري في هذه الفترة في شأن تعطيل العمرة، فهو لأمر معلن يتعلق بتعفير الحرمين الشريفين من فايروس الكورونا، ولأمر غير معلن فيما أعتقد يتعلق بإشغال الناس عما يجري من أحداث امنية تتعلق بأوضاع صراع أمراء آل سعود أخزاهم الله وأذلهم فيما بينهم على العرش.