Elouakaa (قناة اليوتيوب): أرجو لرحابة صدرك أن تجيبني على سؤال لطالما حيّرني: هل حقاً أنّ القدر المحتوم يمكن أن يتغيّر؟ وإذا كان الجواب بالإيجاب فلماذا إذا سمّي محتوماً؟ ومن الذي يعلم بالقدر المحتوم؟ وهل يعلم بأنّه سيتغيّر؟ وهل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)والأئمة الأطهار (عليهم السلام) يعلمون بالقدر المحتوم؟
الجواب: عليكم السلام ورحمة الله
بلى يمكن أن يتغيّر وإن كان محتوماً، وذلك لسببين أحدهما عقائدي، والآخر موضوعي تتفاعل معه أفعال الإنسان وما يترتب عليها من آثار.
أمّا السبب العقائدي فلا يوجد أمر يستعصي على قدرة الله، فلو شاء الله أن يغيّر أي أمر أو يحدث أيّ أمر فما من أحد يحول دون ذلك، فهو الذي قضى ولكن له القدرة على تغيير ما قضى، فهو على كلّ شيء قدير، وهو الحكيم البصير، فبحكمته قضى وبحكمته غيّر ما قضى، وهذا هو الذي عناه الإمام الجواد (عليه السلام) في شأن حتمية السفياني بقوله: إنّ لله فيه المشيئة، فعن حمران بن أعين (قدّس الله سرّه) عن أبي جعفر محمد بن علي (عليه السلام) في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ﴾ [الأنعام: 2] فقال: إنهما أجلان: أجل محتوم، وأجل موقوف. فقال له حمران: ما المحتوم؟ قال: الذي لله فيه المشيئة.
قال حمران: إنّي لأرجو أن يكون أجل السفياني من الموقوف. فقال أبو جعفر(عليه السلام): لا والله إنّه لمن المحتوم. [غيبة النعماني: 312ــ313 ب18 ح5].
وبنفس المراد ذكر أبو هاشم داود بن القاسم الجعفري (رحمه الله)، قال:كنّا عند أبي جعفر محمّد بن علي الرضا (عليه السلام) فجرى ذكر السفياني، وما جاء في الرواية من أنّ أمره من المحتوم، فقلت لأبي جعفر: هل يبدو لله في المحتوم؟ قال: نعم. قلنا له: فنخاف أن يبدو لله في القائم! فقال: إنّ القائم من الميعاد، والله لا يخلف الميعاد. [غيبية النعماني: 315 ب18 ح10]
والمراد بالمشيئة والبداء هو إمكانية التغيير بعد أن كان الأمر مثبّتاًمقضيّاً، وهو عين قول الله تعالى: ﴿لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ * يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ [الرعد: 38-39] والعلاقة بين المحو والإثبات هي علاقة القدر المقضي وبين تغييره، والأصل في ذلك هو أنّ القاعدة العقائدية: ﴿إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [البقرة: 20] تقضي ألّا يحول دون هذه القدرة أيّ حائل أو مانع، وقد كان من اليهود أن حدّدوا هذه القدرة بما قضى وقدّر جلّ وعلا فعابهم الله تعالى فقال تبارك وتعالى: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾ [المائدة: 64]، فتأمّل ذلك.
أمّا لماذا استثنى من ذلك شأن الإمام المهدي (عليه السلام)، فلئن شأنه (صلوات الله عليه) مرتبط بالوهد الربّاني، والله جلّ وعزّ إذا وعد وفى، وهو لا يخلف الميعاد.
أمّا الموضوعي فإنّه يرتبط بالواقع الموضوعي ومتغيّراته، وفي هذا المجال كان إحساس الإنسان بأنّه أسير قدره كما تروّج لذلك الكثير من الفلسفات القديمة والمعاصرة، فكأنه خلق ليمضي في مضمار قدره، دون أن تكون لإرادته وخياراته قيمة في تعديل المسار وتغييره، ولكن مع الإسلام في نسخته المحمديّة العلويّة، ألغيت هذه النظرة، ومنح الإنسان دفقاً عظيماً من الأمل في التعامل مع موضوعات القدر والمصير سيّان في ذلك الشأن الفردي الذاتي أو في شأن الأمّة كجماعة، ويرينا مثال قوم يونس (عليه السلام) كيف أنّ الهلاك المحتوم قد تمّ تغييره إلى النجاة، وليس في ذلك عملاً اعتباطياً أو جزافياً كما قد يدّعيه الأشاعرة، وإنّما لأنهم أوجدوا الآليات التي بموجبها تتحرك مفاعلات التغيير، ومن جملتها توبتهم الصادقة، فلولا هذه التوبة ما كان لمفاعل التغيير أن يحصل، خاصّة بعد أن أبلغ الله نبيّه بإهلاكهم، وحاشا لله أن يخجل نبيه، ولكن الله أراد بذلك أن يضرب مثلاً على وجود هذه الخيارات لمواجهة المآزق المقدّرة نتيجة أفعالهم أو أفعال أممهم.
وكي أوضح الصورة يمكنك أن تلاحظ أنّ عالم العرش في الوصف القرآني، وهو عالم التدبير، قد انطوى على وجود شفعاء يتمثل وجودهم بقوله: ما من شفيع إلّا من بعد إذنه (سورة يونس) وهذا الكلام يحتّم وجود الشفيع، ولك أن تسأل ماذا يصنع الشفعاء في ذلك العالم؟ ومن هو؟
ولو دقّقت لوجدت أنّ هذا الشفيع موجود في عالم الكرسي أيضا، وهو العالم الذي يتلقى أوامر عالم العرش ليحوّلها إلى أمور منجّزة.
ولا نحتاج إلى كثير نباهة لنعرف أنّ مهمة الشفيع إحداث التغيير، فلا معنى لشفاعة لا تحدث تغييراً، والسؤال هنا يغيّر ماذا؟
ما من شك وجود مرتبتين في عالم التغيير فهناك الأمور التي ترتبط بالأمّة، وهناك الأمور التي ترتبط بالفرد، وقد رأيت أنّ عمل قوم يونس الذي أحدث تغييراً كان من جراء توبتهم، ومن ثمّ قبولها، مما جعل التغيير منجزاً، وفي قصّة نفس يوسف عليه السلام ونجاته مثالاً على تغيير أقدار الأفراد وإن كانت من مقاربات الاستحالة كما هو شأن وضع يونس، وهو في أعالي البحار وأعماقه.
ولو أردنا أن نعود إلى موضوع السفياني، فيمكن تقريب الأمر من الناحية الفلسفية بالصورة التالية، الأفعال بطبيعتها ترتبط بمنظومة من العلل، فمن كانت علّة فعله غير تامّة كان معرضاً لعدم حصول الفعل، أمّا من كانت علّة فعله تامّة فقد أصبح تحقق فعله محتّماً ما لم تنشأ علل جديدة تغير تمامية العلة الأولى إلى علة ناقصة، عندئذ يتحوّل محتوم العلة الأولى غير محتوم بسبب تدخل علل لم تكن موجودة من قبل، فلو قدّر أنّ خروجي من الغرفة التي أنا فيها حينما قررت الخروج منها تامّ العلّة، فإن قرار خروجي سيكون حتمي التحقق، فمن جهتي إرادتي لا يحول دونها شيء لتحقيق قرار الخروج، وباب الغرفة مفتوح غير موصد، ولا يوجد أي مانع للحيلولة دون الخروج، هنا نقول أنّ علة الخروج أصبحت تامّة، ولكن ماذا لو انهار السقف وحال بيني وبين الخروج من الباب؟ إذن ذهب المحتوم وحلّ محله شيء آخر، وبكلمة أخرى السفياني للوهلة الأولى خروجه من المحتوم نتيجة لتوفّر علّة خروجه، ولكن هل يمكن أن تتدخل القدرة الإلهيّة بسبب تدخّل الشفيع مثلاً، والذي هو مكين عند ذي العرش كما هو منطوق الآية الكريمة في سورة التكوير، وهو بالتالي مطاع من قبل عوالم التنفيذ والإجراء، لا شك أننا سنجد أنّ المحتوم يمكن تغييره، ولكن بعلّة جديدة ناشئة، وبذا أبقينا الباب مفتوحاً دائما أمام القدرة الإلهيّة فلا يحول دونها شيء، ولكن هذه القدرة غير جزافية كما قد تدّعيها الأشاعرة، وإنّما هي معلّلة ضمن العلل الربّانية في إيجاد التغيير.
وتوضيحه: لو أنّ العبد قام بعمل من طبيعته أن يغيّر القضاء، كالدعاء أو صلة الرحم أو التصدّق بالسرّ وأمثال هذه الاعمال، فهذه الطبيعة ستكون حاكمة على الأقدار الأولى فقد تواتر حديث المعصوم (عليه السلام) في أنّ هذه الأعمال تغير القضاء ولو أبرم إبرامًا، فلقد روى حماد بن عثمان رض قال: سمعته يقول _ وهو يقصد الامام الصادق عليه السلام : إنّ الدعاء يرد القضاء، ينقضه كما ينقض السلك وقد أبرم إبراماً [الكافي ٢: ٤٦٩ ب262 ح١] ومن الواضح أنّ القضاء ما كان ليرد لولا الدعاء حتى لو كان هذا القضاء قد توفّرت علله التامّة.
وقد ورد أيضاً عن الإمام الباقر عليه السلام قوله: صلة الأرحام تزكي الأعمال، وتدفع البلوى، وتنمّي الأموال، وتنسئ له في عمره، وتوسّع في رزقه، وتحبّب في أهل بيته، فليتق الله وليصل رحمه. [الكافي 2: 152 ح13] وأمثال هذه الروايات كثيرة تطلب في محلّها، وما يهمّنا هنا هو مراقبة هذه الأعمال وما فعلت في النتيجة، فلو راقبت نتائج صلة الرحم التي ذكرتها الرواية الأخيرة ستجد أنّ الأعمال لم تزكّى إلّا بعد صلة الرحم، وهكذا في دفع البلوى ونموّ المال، وزيادة العمر، وسعة الرزق إلخ .