حبيب المحمدي (منتظرون)
ما هو الفرق بين المدينة والقرية في القران الكريم؟
الجواب:
اختلف المتحدثون في هذا المجال ما بين من قال بعدم وجود فرق بين الكلمتين في المعنى وانه من المترادف اللغوي، وبين من نفى المترادف وقال بوجود فارق ما بين الكلمتين، وبالنسبة لنا فبادئ ذي بدء اعتقد بانه لا يمكن القول بان القرية والمدينة تؤديان معنى الترادف الذي يؤدي فيه احدهما معنى الاخر لاننا لا نؤمن بوجود المترادف اللغوي في القران أساساً، وانما ثمة فارق دائم بين الكلمات القرآنية، كما في كلمات يوم الجزاء ويوم القيامة ويوم الدين ويوم الحساب، فكلها لا تحكي وحدة دقيقة في المعنى وان اتحدت للوهلة الاولى بالموقف ما بعد القبر، وانما ثمة مراحل تتدرج بعد القبر تسمى تارة بيوم القيامة ثم بيوم الحشر ثم بيوم الحساب ثم بيوم الجزاء وهكذا، او في التفريق بين الرحمن والرحيم، فمع ان مصدر الرحمة هنا واحد، ولكن رحمة الرحمن غير رحمة الرحيم، لان الاولى اعم من الثانية، اذ الاولى متعلقة بالتكوين وتشمل كل شيء في الوجود بغض النظر عن موقفه من طاعة الله ومعصيته، والثانية متعلقة بالتشريع وتخص الذين يلتزمون بشرع الله واوامره ونهيه، وهنا لا نستطيع ان نستعير احدها لنضعه في محل الاخر، وهو امر مألوف في اللغة، وهو نفس ما نلاحظه في الكلمتين مورد السؤال.
وما استظهره بعضهم بأن قول الله تعالى في سورة يس: (وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ) [يس: ١٣]. ثم قوله في نفس الموضوع: (وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ) [يس: ٢٠] للقول بأن لا فارق بين الكلمتين، وفي تصوري فإنه ينطوي على وهم نتيجة لاختزال القصة وصبها في واقع واحد، بينما طبيعة القصة القرآنية التي تنطوي في العادة على حذف للتفاصيل تشير الى ان الحديث هنا يجري عن مقامين مختلفين وان كانت الحكاية عنهما في اطار القصة الواحدة، فالمرسلون ذهبوا الى القرية، والتساؤل الطبيعي الذي يجب ان يطرح عندئذ هو من اين جاء المرسلون؟ اذ الاية الاولى تشير الى اين ذهبوا ولكنها تسكت عن محل انطلاقهم نحوها، بينما الاية الثانية تتحدث عن ان الذي جاء الى القرية انما جاء من المدينة الى القرية، وواهم من تصور ان قوله من اقصى المدينة يعني ان القرية هي نفس المدينة وانها كانت مدينة كبيرة مترامية الاطراف، وانه جاء من ابعد نقطة فيها الى هذه القرية، وانما نفس وصف البعد يستلزم التفريق ما بين المقامين.
ونفس الامر ربما تجده قد توهم في حديث القرآن في سورة الكهف عن قصة الجدار في قوله تعالى: (فَانطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ ۖ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا). [الكهف: ٧٧]، ثم علّل ذلك جواباً على اعتراض موسى عليه السلام بقوله: (وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ ۚ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ۚ ذَٰلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا. [الكهف: ٨٢] وقد تصور الواهم ان الحديث عن القرية التي فيها جدار الغلامين، يستلزم وجود الغلامين عندهما، وحيث ان القران اشار الى ان الغلامين في المدينة، ففهم من ذلك ان القران يقول بالوحدة بين الكلمتين في المعنى، وانه استعار للاولى ما في الثانية والعكس صحيح، بينما لا يخطئ المراقب الحصيف الفارق الكبير ما بين الاثنين، فالقرآن الكريم تحدّث عن غلامين صغيرين يعيشان في المدينة وان لهما جدار في القرية فحفظ ما تحت الجدار لهما حتى يبلغا الرشد فيأخذانه، ولا ادري ما الذي يعسر لفهم ان الكلمتين استخدما في عرضين مختلفين؟ وان المكانين مختلفين والدليل عليهما الفارق بين عمري الغلامين اثناء اقامة الجدار وبين بلوغهما الرشد لكي يستفيدا منه.
ومن الطبيعي عندئذ ان يقال: فان لم تتبين الوحدة ما بين الكلمتين، فما هو الفارق بينهما اذن؟
بداية لا يمكن ان نقر ما اشار اليه العديد من اهل التفسير بان المدن هي ما لها سور وحصن يحيط بها ويسوّرها، والقرى تخلو من ذلك، وذلك لوضوح ان القرآن الكريم تحدث عن القرى المحصنة كما في قوله تعالى: (لا يقاتلونكم جميعا الا في قرى محصنة) الحشر ١٤، وما كان للقرآن الكريم ان يتحدث عن القرى المحصنة في وقت يقال عن ان القرى لا تسوير فيها فضلا عن التحصين.
إن من يتأمل في القرآن الكريم يجد ان القرية ذكرت في القران ٣٣ مرة فيما ذكرت القرى ١٧ مرة، وفي هذه الاثناء ذكرت المدينة ١٤ مرة ققط، وفي كل مرة ذكر القران العذاب والانتقام الالهي في القران الكريم او الظلم الاجتماعي او اي معيار اخلاقي وتشريعي آخر فانه كان متعلقاً بالقرية او القرى بشكل يستغرق كل القرية، كما في قوله تعالى: (وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا) [ النساء : ٧٥] او قوله: (وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ [الأعراف : ٤] او قوله تعالى: (فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَىٰ حِينٍ) [يونس : ٩٨] ولم يك الحديث المعياري او الاخلاقي متعلقا بكل المدينة ابداً، ولو اراد ان يشير الى المسألة المعيارية هنا، فإنه يشير الى بعض من في المدينة لا كل المدينة، كما نلاحظ ذلك في قوله تعالى: (وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ ۖ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ۖ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ ۖ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ ۚ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَىٰ عَذَابٍ عَظِيمٍ) [التوبة: ١٠١] او قوله تعالى: وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ) [النمل: ٤٨] ولا تفسير لهذا التباين الا بالقول بأن القرية او القرى يمكن أن يسودها موقف واحد بالعادة فيستلزم العذاب او رفعه، بناء على موقفها من امر تشريعي معين، ولذلك تجد العذاب حينما يعمم على كل قرى قوم لوط عليه السلام، فلأنهم اشتركوا جميعاً في موقف واحد، ومن لم يشترك كان راضياً بفعل ما كان قوم لوط يفعلونه، وبنفس القدر رأينا ان البلاء حينما رفع عن قوم يونس عليه السلام، فلأن جميع القرية اتفقت على موقف واحد إزاء مسألة الإنابة الى الله تعالى، ومن هنا نفهم المغزى من اطلاق القرآن الكريم وصف الظلم او البركة على القرى، كما في قوله تعالى: (وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ ۖ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ) [سبأ: ١٨] وهو امر لم نجده قد استخدم مع المدينة .
ولأن الله تعالى لا يعذّب من لا جريرة له بموقف من ارتكب الجريرة التي استلزمت العذاب، نجد ان الموقف في المدينة اختلف عما رأيناه في القرية، ففي المدينة لا يوجد تبنياً لموقف واحد، وانما يمكن القول بانها تغلب عليها المواقف المتعددة، ولذلك وجدنا القرآن يتحدث عن بعض افراد المدينة لا جميعهم إن أراد أن يثير أمراً تشريعياً أو أخلاقيا ما، سواء في السلب والايجاب، لان المدينة التي تؤمها في العادة أقوام متعددة الاتجاهات والانتماءات يعسر ان تتفق على موقف واحد، فلقد تحدث القرآن عن مكة وسماها بأم القرى لان جميعهم كانوا متوافقين على الشرك، بينما تحدث عن يثرب الحاضرة التي يتعايش فيها المسلمون مع اهل الكتاب من يهود وغيرهم ناهيك عن المنافقين وسماها بالمدينة، وهي دلالة ذات مغزى يجب ان لا يفوّته الباحثون في مجالات الفروق اللغوية.
يبقى ان نشير الى ان القرآن الكريم استخدم كلمة المدينة أثناء حديثه عن قوم لوط عليه السلام، كما نلاحظ ذلك في قوله تعالى: (وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ) [الحجر: ٦٧] وما كان هذا الحديث ليكون لولا ان الوصف يعود الى ان لوطاً واصحابه وضيفيه من الملائكة كانوا لا زالوا معهم، ولذلك وصفها بالمدينة اثناء وجودهم، ولكن حين خرجوا منها عاد واستخدم لها اسم القرية.
وربما يلاحظ ان القرآن استخدم كلمة المدينة للحواضر التي فيها نظم ادارية محددة، ففي حديثه عن مجتمع يوسف عليه السلام، لم يبدر منه استخدام كلمة القرية وانما استخدم كلمة المدينة، كما في قوله تعالى: (وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ ۖ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا ۖ) [يوسف: ٣٠] وكان في حديثه عن مصر الفرعونية ان استخدم كلمة المدينة ايضا قال:( وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَىٰ حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَٰذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَٰذَا مِنْ عَدُوِّهِ ۖ) [القصص: ١٥] وكذا في قوله: (فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ ۚ قَالَ لَهُ مُوسَىٰ إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ) [القصص: ١٨] وكل هذا يشير الى مائز مهم وهو ان المدينة ألصق بحالة التملك منها الى غيرها، فالوصف المدني لهذه الاماكن لا يمكن ان يكون الا مقترناً بحالة التملك والبقاء المستديم، اذ ان النظم الادارية لا تأتي الا في البقع التي يستديم الانسان فيها البقاء، ولا يتوقع ممن لا يتملك ويستحوذ ان يقيم نظاماً إدارياً، ولعل ذلك هو السبب الذي جعل القرآن يأتي بكلمة المدينة معرفة بأل العهد دوماً، بينما استخدم القرآن التنكير مع القرى تارة، او استخدم ال الجنس والاستغراق تارة اخرى، دون ان يستثني استخدام لام العهد ايضا على بعضها تارة ثالثة.
وما يمكن ان ننتهي اليه في هذا المجال، ان القران الكريم وصف التجمعات الحضارية بمقاييس المعايير المناقبية او التشريعية بالقرى، فقال عنها تارة: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَىٰ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ) [هود: ١١٧] ، وقال أخرى: (وَتِلْكَ الْقُرَىٰ أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا) [الكهف: ٥٩] ، وقال أيضاً: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَٰكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [الاعراف: ٩٦] ولهذا محض التسمية لا تدل على دلالة معينة، ولكن اللون المناقبي هو الذي يحدد ذلك، إن خيراً فخيراً، وإن شراً فشراً، وهو أمر لم نره مع المدينة، وعليه فإن مصطلح القرية يمكن أن يطلق على التجمعات السكانية الكبيرة كما يمكن ان يطلق على الصغيرة منها، ومعه يمكن القول بأن كل مدينة قرية ان تبنت اللون المناقبي التشريعي او وقفت ضده، ولكن ليس كل قرية مدينة، وهذا هو الذي ينسجم مع طريقة التقييم الإسلامي للابعاد الحضارية، فالأصل لديه ليس الصورة العمرانية، ولا شكل الواقع الاجتماعي ولا حجمه، ولا ادارة التفاصيل الاجتماعية، فهذه تفاصيل تركت للواقع وما يوفره من إمكانات او يسلبها،، مع الاحتفاظ بهامش لتفاصيل قد يتدخل البعد التشريعي في ضبطها، لتداخلها مع الجوانب المناقبية للنظام، اما في الامور العامة فإننا نجد أن الإسلام يركز أساساً على الموقف من المعايير المناقبية التي تؤمن السعادة للفرد او المجتمع، او تلك التي تنفيها، والحمد لله اولا واخرا وصلاته وسلامه على رسوله واله ابدا.
ملاحظة: لعل حديثنا عن الفارق بين المدنية والثقافة والحضارة في اخر الجزء الاول من كتابنا علامات الظهور ما يمكنه ان يثري الموضع اعلاه، فراجعوا ان شئتم الاستزادة.