محب (الموقع الخاص): لماذا الانبياء والائمة عليهم السلام لم يتخفوا, لكن الامام المهدي يتخفى؟ ولماذا الانبياء والائمة عاشوا وماتوا, والامام المهدي حي لم يمت؟ ألا تتناقض هذه العقيدة التي اخترعها المجلسي الاصفهاني(اصفهان؟) مع نص القرآن الكريم: {وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد} كل من عاش قبل محمد المصطفى صلى الله عليه واله ماتوا في زمانهم {افئن مت أفهم الخالدون} كل من يأتي بعده سيموت حتما. اننا لو تمسكنا بماقاله فلان وفلان من الرجال وتمسكنا بآراءهم وكأنه جزء من كلام المعصوم لن نهتدي للحقيقة أبداً، ويكون حالنا حال اولئك الذين قالوا: {انا وجدنا آباءنا على امة وانا على آثارهم مهتدون} اللهم اهدنا للحق .. ربنا إهدنا لنقرب من أمرنا رشداً
الجواب: هناك جملة من الملاحظات على كلامكم، وأولها أن عقيدة غيبة الإمام صلوات الله عليه لم يخترعها العلامة المجلسي رضوان الله عليه، فالعلامة المجلسي من علماء القرن الحادي والثاني عشر، بل هي مما ورد في حديث أهل البيت صلوات الله عليهم قبل ولادة الإمام روحي فداه نفسه، والروايات في هذا الأمر كثيرة جداً، والواقع التاريخي يثبتها لتواتر من تحدثوا عن رؤيته بعد ولادته ثم غيبته، وهذا ما يحتاج إلى تفصيل تجده في الكتب المختصة، ولو شئت لتوسعنا في حديث منفصل.
ولا أدري وجه تاكيدك على وصف العلامة المجلسي بالأصفهاني، فإن كان الغرض التعريض بأعجميته، فهو معيب جداً لأنه ليس من خلق الإسلام ولا القرآن، وإنما هو للجاهلية أقرب منه إلى أي شيء آخر، بالرغم من أنه لم يك أعجمي اللسان بل كان أستاذ العربية في زمانه، وهو من حيث الأصل عربي من جهة أمه سليلة جبل عامل، ولا قيمة لكل هذه الأمور فلعمري كان أبو لهب وأبو سفيان وأبو جهل من لبّة العرب، ولم يتوان القرآن من نعتهم بالجاهلية، وكان سلمان الفارسي وبلال الحبشي وغيرهم من الأعاجم، وما توانى الرسول الأكرم صلوات الله عليه من نعتهم بالمحبب من النعوت، وما دخل الأعجمية والعربية أو غيرها في تقييم العلماء؟ ففي كل قوم عالم وسفيه، وفي كل قوم تقي وفاجر، فدعها عنك أخي الكريم وتخلّق بأخلاق دينك الذي نهى عن مثل هذه الأفكار، وتمسك بكل حكيم وإن كان من الصين، واترك كل سفيه وإن كان من أهل بيتك.
وثانيها: أنك تجمع ما بين الغيبة والخلد، فتجد أن الغيبة متناقضة مع نصوص قرآنية، وهذا وهم منك أخي الكريم فالغيبة لا تعني الخلد بل لا علاقة لها بالخلد، وإنما تعني اختفاء الشخص عن الأنظار لمدة زمانية تطول وتقصر حسب طبيعة الغائب، ولا تجد أحداً من الشيعة يتحدث عن أن الأئمة خالدون في الحياة الدنيا، بل إن قتلهم وشهادتهم بأبي وأمي بما فيهم الإمام المهدي صلوات الله عليه هو من المتسالم عقائدياً عندهم.
وفي حال الإمام صلوات الله عليه ينبغي أن يكون الكلام في أمرين أولهما يتعلق بما إذا كان هو أول من غاب؟ والثاني يتعلق بما إذا كان طول غيبته المستلزمة لطول عمره الشريف تدخل ضمن المعقولات القرآنية؟ لأن الإنكار لهذه الغيبة مبني على هذين الأمرين، وقبل أن نجيب على ذلك يجب التنبيه على الملابسة التي وقع فيها الأخ الكريم والتي خلط فيها بين الغيبة ولربما قصد طول العمر وبين الخلد الذي نفاه القرآن الكريم، وعقائدنا بالتبع للقرآن الكريم تنفي الخلد عن أي أحد نبياً كان أو إماماً، بل رواياتنا تؤكد أن الإمام صلوات الله عليه يقتل بأبي وأمي، ولكن طول العمر شيء آخر وسيأتي الحديث حوله.
ومن الواضح قرآنياً أن العديد من الأنبياء والأولياء عليهم السلام غابوا عن أقوامهم بمدد تطول وتقصر، فالكثير من علماء أهل السنة يتحدث في تفسير قوله تعالى عن إدريس عليه السلام: {ورفعناه مقاماً علياً}[1] بأنه لم يمت وإنما رفعه الله إليه، ونفس الأمر يسري على عيسى عليه السلام، ومن قبله الخضر عليه السلام، كما وأن غيبة إبراهيم عليه السلام عن قومه حين نزوحه إلى واد غير ذي زرع هو نمط من أنماط الغيبة، ومثله غيبة موسى عليه السلام، وكذلك غيبة يوسف عليه السلام في الجب، هذا ناهيك عن غيبة عيسى عليه السلام وهكذا عشرات الأمثلة التي يمكن إطلاق مصطلح الغيبة عليها بنحو من الأنحاء، هذا إذا فسرنا الغيبة بعدم تواجد الغائب في قومه، أو اختفائه عن أنظارهم، ولذلك فإن الكلام لا ينبغي أن يكون في أصل الغيبة، لأن هذا الأمر إنما هو أمر طبيعي جداً، وإنما يجب ان يكون الكلام في مسألة طول العمر، وفي هذه المسألة لو تمعنت فيها بشكل جيد فستجد أن معيار رفضها ذوقي ومزاجي اكثر مما هو علمي وقرآني، فلقد اعتاد الناس أن ينظرون إلى بقيتهم ضمن معدل عمري معين، ولكن الواقع التاريخي والمنطق القرآني والواقع العلمي لا يوقف هذا المعدل عند حد معين، لأن من الواضح أن التجربة البشرية تؤكد أن هذا المعدّل لا أساس علمي له، فقد ينتهي العمر قبل هذا المعدل، وقد يمتد لما هو أكثر من ذلك، ونحن وإن ناقشنا هذا الأمر بصورة مطوّلة في الجزء الأول من كتابنا علامات الظهور، ولكن لا يمنع من إعادة التذكير بالأمور التالية:
أولاً: لا يوجد هناك أي دليل علمي ولا قرآني ولا تاريخي يمنع من امتداد عمر الإنسان إلى أزمان عديدة، فمن جهة عقائد القرآن الكريم فإن الله سبحانه وتعالى قادر على كل شيء، وكونه يتصف بالقدرة يستوجب أن استحالة وجود ما يحال دونها فقدرته جلّ شأنه لا تحول دونها القدرات، وبالتالي فإن إمكان الامتداد العمري لعمر الإنسان لا يحول دونه أي مانع عقائدي، بل ربما نتلمس من قوله تعالى: {أحسن كل شيء خلقه}[2] ما فيه دلالة على أن الإمتداد العمري هو الأصل، لأن خلقة الله لا يمكن أن تحمل سر فنائها بذاته مما يجعل تلف الخلقة لعارض خارجي، وهذا العارض ليس ذاتياً، فالخلقة خلقت من جمال الله تعالى فكانت حسنة في كل شيء، ولكن قد يطرأ عارض من خارجها كأن يأتيها الأجل الإلهي، أو أن يأتيها من بيئتها ما يجعل الخلايا الداخلية تتآكل وتموت، ويمكننا ان نتلمس في قوله تعالى لآدم عليه السلام: {إن لك أن لا تجوع فيها ولا تعرى وأنك لا تظمأُ فيها ولا تضحى}[3] ما يؤكد ما ذهبنا إليه، فهذا الكلام لا يختص بآدم عليه السلام، وإنما بكل من تواجدت فيه مواصفات آدم التقوائية، لأنه سبحانه وتعالى اشترط أن لا يأكل آدم وزوجه من خارج طاعة ما أمره الله تعالى، ولعل قرن أكل هذا النمط من المأكولات بظهور سوأتهما، ما يشعر بأن الشجرة التي أكلا منها تؤدي إلى وجود فضلات في داخل الجسم الإنساني فيضطر لطرحها، لا كما توهّمه الكثير من المفسرين ـ إن لم يك غالبيتهم بل جميعهم ـ بأن ما ظهر لهما من السوأة هو عورتهما، إذ أن ذلك من سخيف القول، فما يطلق عليه بعورة الإنسان هو جزء أصيل من خلقتهما، وكيف يمكن تصوّر أن الخلقة الآدمية لم تتيسر لهما إلا بعد معصيتهما؟ وأن يطرح الإنسان من جسمه شيئاً يعني أن يدخل فيه شيئاً، مما يفسح المجال للمؤثر الخارجي على داخله، هذا بالرغم من أن القرآن لم يصف لنا طبيعة الطعام الذي يسّره الله تعالى بحيث أعطى لآدم وزوجه كل مواصفات البقاء والإمتداد العمري، ولكنه تحدّث عن نمط من شأن الاكتفاء به أن يصدّ الإنسان عن المؤثرات الأربعة التي من شأنها أن تقتل الخلية الإنسانية من الداخل، والمتمثلة بجوع وعري وعطش وتيبس هذه الخلية، مما يكون القرآن الكرم قد طرح عبر هذا النموذج التاريخي في الخلقة عن وجود نظام للتغذية يصد الإنسان عن المؤثر الخارجي الذي من شأنه أن يميته من الداخل، ولا يذهب بك الوهم بأن هذا الأمر متعلق بالجنة، فجنة آدم غير جنة الخلد التي وعدها الله سبحانه الأتقياء من خلقه، لوضوح ان جنة الخلد من يدخلها لا يخرج منها، ولكونها لا يمكن ان تستوعب مثل إبليس عليه لعائن الله، كما وأنها تخلو من الأوامر التشريعية سواء كانت من النمط الإرشادي أو المولوي، بل هي جنة من جنان الدنيا، ومن سخف بعض المفسرين تفسيره لكلمة الهبوط الواردة في آيات آدم بأنها النزول من الجنان العليا إلى الأرض، لأن كلمة الهبوط تعني فيما تعني الإنتقال من مكان إلى آخر، كما في قوله تعالى: {اهبطوا مصراً فإن لكم ما سألتم}[4]، وعليه فإن الحديث الإلهي عن آدم عليه السلام كان في جنة من جنان الأرض، وهو ما تشير إليه روايات أئمة الهدى عليهم السلام كما في رواية الحسين بن ميسر قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن جنة آدم عليه السلام؟ فقال: جنة من جنان الدنيا، تطلع فيها الشمس والقمر، ولو كانت من جنان الآخرة ما خرج منها أبداً.[5]
وبناء على كل ذلك فإن من شأن العثور على هذا النظام الذي ذكره القرآن الكريم أن يخرج الإنسان من مسألة القصر العمري إلى الطول الزمني لعمره، وهو نظام لا علاقة له بالمعجز الإلهي، وإنما هو نظام دأب الإسلام على طرح مثيله مع كل الأنظمة المادية المعتمدة على السبب والمسبب، فلقد طرح القرآن كشفاء مع أن الدواء هو النظام المادي للشفاء من الداء، وطرح النقل الخارق للأشياء من مكان لآخر كما في قصة عرش بلقيس بطريقة تخرج عن عالم الجاذبية والحركة، وهو العالم الذي اعتاد عليه الإنسان كي ينقل به الأشياء ويحركها، وطرح صلاة الإستسقاء كطريق لنزول المطر مع أن الطريق المادي لا علاقة له بالصلاة، وطرح أداء النوافل سبيلاً للرزق مع أنه لا علاقة للنظام المادي للرزق بها، وهكذا كل الأمور التي أراد الله سبحانه وتعالى للإنسان أن يجد أن هناك أنظمة في دنياه أقوى تأثيراً من الأنظمة المادية التي تجره للغرور والتكبر ونسيان قدرة الله تعالى، وحينما يتم إيكال هذا النظام لمن لديه علقة مع الله سبحانه وتعالى، فما أسهل أن نربط ذلك بالإمام المنتظر عجل الله فرجه والذي أجمعت الأمة على أنه أفضل من نبي الله عيسى عليه السلام، والأفضلية هنا تنجر على الأفضلية من كل ما لدى عيسى من إمتيازات ما عدا النبوة، والتي نسخت بدين محمد صلوات الله عليه وآله، إذ من الواضح أن عيسى عليه السلام لن يأتي حينما يعود إلى عالم الدنيا بعنوانه نبياً وإنما بعنوانه مسلماً كبقية المسلمين لوضوح أن نبوته انتهت بنبوة الرسول الخاتم صلوات الله عليه وآله.
ولم يكتف القرآن بطرح المسألة عند هذا الحد، وإنما راح يتحدث عن طول العمر الخاص بنوح عليه السلام بعيداً عن الإعجاز، وهو هنا يطرح نموذجاً تاريخياً رآه الناس وعايشوه، وهذا الطول مثل ما صلح لنوح عليه السلام يمكن أن يصلح لأي إنسان لأن ذلك من خصوصيات الخلقة الإلهية.
أما من الناحية العلمية فمن الواضح أن العلم لا يعارض حالة الطول العمري للإنسان، بل هو لا يتمكن من التحدث عن حد قطعي للعمر ينتهي عنده، إذ من الواضح علمياً أن ذلك خارج إختصاصه، ولكن لو أخذنا مثال جنة آدم عليه السلام المتقدم لوجدنا أن العلم يعلل فناء الخلية بهذه العناصر الأربعة ولا يتعداها، ولهذا فإن جهده من أجل المعالجة الطبية للإنسان يقوم في جوهره على الحفاظ على هذه العناصر، أو تخفيف الضرر عنها.
ثانياً: أما من الناحية التاريخية فإن من المسلّم ولادة الإمام محمد بن الحسن صلوات الله عليه في حياة والده الإمام العسكري صلوات الله عليه، وهذا التسالم مدعّم بالكثير من الوثائق التاريخية لدى مؤرخي الشيعة وأهل السنة على حد سواء،[6] غاية ما هنالك أن من انكر من هؤلاء لم ينكر ولادته بل أنكر غيبته بل وتهكّم بها، وليس مهماً ما تمّ نكرانه من قبل مذهبيي أهل السنة فإن ذلك مرتبط بالنفي الذوقي والمزاجي والطائفي وليس نفياً علمياً كما بيّنا، فهو نكران من أجل النكران ليس إلّا، إذ أن من المسلّم أن أهل بيت الرجل هم أصحاب الشهادة العليا على وجوده وعدمه، وطالما أن أهل البيت عليهم السلام قد تحدّثوا عن ذلك وتحدّث المؤرخون عن ذلك، أما بقيته وامتداد عمره فإن ذلك تفصيل قد بيّناه فيما سبق.
والعجيب أن بعضهم يعدّ ابن صائد هو الأعور الدجال، ويتحدثون عن أن الرسول الأكرم صلوات الله عليه وآله قد ذهب إليه في بيته بمعية مجموعة من صحابته،[7] مما يعني ان عمره أكبر من عمر الإمام المنتظر عجل الله فرجه، وهم يتحدثون عنه بعنوانه من أشراط الساعة، مما يعني انه سيبقى لما بعد الإمام المنتظر روحي فداه، وهؤلاء حينما يقبلون بمثل الأعور الدجال بهذه الشاكلة يرفضون أن يكون الإمام المنتظر بأبي وأمي بعمر أقل منه؟ مع أن ذاك من أولياء الشيطان، والإمام من أولياء الرحمن، ولو عشت لأراك الدهر عجباً!!
[1] سورة مريم: 57.
[2] سورة السجدة: 7.
[3] سورة طه: 118ـ119.
[4] سورة البقرة: 61.
[5] الكافي 3: 247 ح2.
[6] للتعرف على التفصيل يمكنكم مراجعة الجزء الأول من كتابنا علامات الظهور بحث في فقه الدلالة والسلوك.
[7] انظر البخاري 7: 133ـ114، ومسلم في صحيحه بشرح النووي 8: 190ـ194، احمد في مسنده 3: 368، والترمذي في سننه 3: 351، وغيرهم كثير