بسم الله الرحمن الرحيم

سماحة الشيخ جلال الدين الصغير

63: هل أن وجود الإمام صلوات الله عليه لازم لبيان أحكام الدين وحقائقه، ولو كان فماذا نقول مع وجود غيبته صلوات الله عليه؟



أم إحسان الكريماوي (مجموعة حكيميون): يعترض المخالفون بأننا نعتبر لزوم وجود الإمام لبيان أحكام الدين وحقائقه، وإرشاد الناس وهدايتهم، وغيبة الإمام تناقض هذا الأمر، فكيف نرد عليهم؟ ودمتم.

الجواب: في الواقع هذا الاعتراض ليس بجديد، وهو إن نمّ عن شيء فإنما ينمّ عن جهل هؤلاء بطبيعة الإمامة من جهة، ومن جهة أخرى بطبيعة بيان الأحكام ثانية، إذ أن بيان الأحكام يمكن أن يتم في مرحلة سابقة على الغيبة، ومن دون أن يتوقف على وجود الإمام صلوات الله عليه في كل زمن، لوضوح أن الأحكام لا تتغير في أصولها باختلاف الزمان والمكان، والتغير إنما يحصل في التفاصيل المتعلقة بها، ولذلك كانت هذه القضية محط أنظار الأئمة عليهم السلام سلفاً كما هو واضح من قول الإمام الصادق عليه السلام الذي يرويه هشام بن سالم الجواليقي قال: إنما علينا أن نلقي إليكم الأصول وعليكم أن تفرّعوا، وكذا ما يرويه أحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي عن الإمام الرضا عليه السلام أنه قال: علينا إلقاء الأصول إليكم وعليكم التفرّع.[1]

إذ نلاحظ في هذا القول بأن الأئمة عليهم السلام اوجبوا على أنفسهم أن يبيّنوا أصول الأحكام، تاركين مهمة التفريع على هذه الأصول إلى العالمين بروايتهم أو ما نصطلح عليه اليوم بالفقهاء، إذ أن عملية التفريع وهي عملية متحركة عبر الزمن لا تحتاج إلى الإمام صلوات الله عليه، ولكنها تحتاج إلى الفقيه العالم بأصولهم لكي يرجع كل قضية إلى أصولها، فحينما يقول النبي المعصوم صلوات الله عليه وآله: كل مسكر حرام، وما أسكر كثيره فقليله حرام.[2] فإنه يكون قد حدد لنا ضابطة أساسية يجب الرجوع عليها في كل تفاصيل المشروبات، فما أسكر يكون حراماً ولا حاجة بعدها لأن يشخّص لنا الرسول صلوات الله عليه وآله لكي يشخّص كل نوع شراب، وإنما أطلق القول بذلك لتبقى مهمة الفقيه لكي يدلّ عبر الزمن على ما ينطبق عليه هذا القول وعلى ما لا ينطبق.

ولولا وضوح ذلك لما اكتفى هؤلاء المعترضون بما ورد إليهم من أحكام في زمن الرسول صلوات الله عليه وآله وصحابته وتابعيه. فتأملوا!

أما مسالة إرشاد الناس فإنها هي الأخرى لا تتوقف عند وجود الإمام صلوات الله عليه بين هؤلاء الناس في كل زمان، لأنه يستدعي بالضرورة أن يكون الإمام موجود في كل مكان أيضاً، لأن التحجّج بأن الإمام صلوات الله عليه يجب أن يقوم بنفسه بعملية الإرشاد بين الناس، سيجرّنا إلى التساؤل عن طبيعة هؤلاء الناس ومكانهم، وبالنتيجة سيضعنا أمام معضلة أن الرسول صلوات الله عليه وآله في زمانه لم يتصل بكل الناس، والكثير ممن يعدونهم صحابة وفق ضابطة بعضهم بأن الصحابي كل من عاش في زمن الرسول وإن لم يره، فهل نعتبر ذلك خللاً في عملية إرشاد الناس من قبل الرسول الأكرم روحي فداه؟

من الواضح أنه لا يوجد أحداً ممن يمكن له أن يعتقد بتوقف عملية الإرشاد على وجود المرشد حضوراً وعياناً في الزمان والمكان المعني بهذه العملية، لأن ذلك سيقتضي القول بعدم تمامية الحجة الربانية لأن المرشد الرباني لم يصل إلى كل الناس، مما يقتضي عدم الاعتناء بهذا القول، وضرورة الركون إلى المنطق الموضوعي في هذا المجال من أن الأصل في الإرشاد أن يصل إلى الناس بطرق مأمونة، سواء باشره المعصوم صلوات الله عليه بنفسه، أو من ينوب عنه، أو بمن يحتذي بسيرة المعصوم صلوات الله عليه، فالأصل في الإرشاد ليس كلام المعصوم بلسانه، وإنما في بث الفكر الإرشادي الخاص بالمعصوم وتعميمه على الناس، وعندئذ نجد أن الوجود الحضوري للمعصوم صلوات الله عليه هو الآخر غير متلازم مع عملية الإرشاد كما رأيناه في عملية بيان الأحكام.

وإذا كان هذان الأمران لا يتوقفان على وجود المعصوم صلوات الله عليه الحضوري، وإن كان هؤلاء جادّين في البحث عن هذا المشكل بصورة موضوعية، فإن السؤال الجدي في هذا المجال يجب أن يوجّه بهذه الطريقة: هل ترك المعصوم صلوات الله عليه من الفكر ومن القواعد الفقهية ما يكفي لمعالجة هاتين المشكلتين عبر عصور الغيبة؟ لأننا نعتقد بأنهم عندئذ سيكونون ملزمين بتقديم أجوبة لأسئلة محرجة جداً، فالاكتفاء بما جاء في العصر الإسلامي الأول حتى بضميمة الصحابة بما اجتهدوه، وبما ادعوا نقله من الرسول صلوات الله عليه بعيداً عن صحته وخطئه، جعلهم يواجهون معضلة كبرى هي التي ألجأتهم أولاً لإنشاء مذاهبهم في عصر المنصور العباسي فما دون، ثم هي التي دعت من بعد ذلك هذه المذاهب إلى الركون إلى اعتماد آليات في التنظير الفقهي مما لا علاقة لها بالشريعة نفسها، بل هي إلى الرأي الشخصي للفقيه أقرب منها إلى موقف الشريعة، لأنهم يجدون ان ما وصل إليهم من أحكام لا يمكنها أن تغطي احتياجات عصر يومذاك، فما بالكم بما بعده، ولهذا أدخل أبو حنيفة القياس بالرغم من أن إبليس عليه لعائن الله هو أول من قاس كما يصرّح بذلك قوله في القرآن الكريم: {قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ}[3] وسار من بعده الشافعي في مسألة الاستحسان، ثم جاءت المصالح المرسلة لتشكّل ثالثة الأثافي، ومن ثم لتستقر عند رابعتها في قصّة ما يسمى بمقاصد الشريعة، مع أنهم يعرفون أن كل هذه الأمور هي أمور في أحسن صورها اعتبارية يختلف تقديرها من فقيه لآخر، ومن ثمّ لنجد كيف أضحت الحجّة بعيدة بالتدريج عن المستند الشرعي؟ لأنها غدت أسيرة لتقدير شخصي لهذا الفقيه أو لذاك؛ لهذه المصالح أو المقاصد أو الاستحسانات، وفتح الباب من بعد ذلك على مصراعيه ليدخل الكثير من الآليات التي ترتبط بالرأي البشري أو بمزاجه أو ذوقه، لا بالمشرّع المقدّس، حتى إذا ما وجدوا أن الفتق قد اتسع على الراتق أغلقوا كل شيء، وتنادوا للعودة إلى شرعة السلف، فعادوا بشرعة شوهاء بوهاء، لا تحاكي عصراً ولا تستوعب تطوراً، فلا هم أمّنوا ما أعطاهم الإجتهاد، ولا احتفظوا بتقليدهم للعصر الأول، وها هو النموذج السلفي المعاصر يفرز لنا في كل يوم نموذجاً من نماذج هذا التخلّف المريع والبعد الشنيع عن الشريعة السمحاء.

ويمكن للمرء أن يراقب بعين الدقّة ذلك النقص الذي أحوج أمثال أئمة المذاهب المناهضة لأهل البيت عليهم السلام، فإن ادّعوا أن النقص غير موجود فلم احتاجوا إلى مثل القياس والاستحسان والمصالح المرسلة ومقاصد الشريعة وما إلى ذلك؟ وإن قالوا بوجوده الواقعي،[4] عندئذ كيف يمكن الإدعاء بأن الشريعة كاملة؟ بل كيف يمكن القول بأن الحجة الربانية كاملة؟ مع أن الله سبحانه وتعالى يقول بأن حجته بالغة كما هو في قوله جلّ وعزّ: {قل فلله الحجة البالغة}[5] ومن الواضح أنهم يقولون بأنه لا علم لأحد بمكنونات القرآن، وغالبيتهم يذهبون إلى أن الرسول الكريم بأبي وأمي نفسه لا يعلم كل ما في القرآن، كما هو الحال عند تفسيرهم لقوله تعالى: {والراسخون في العلم}[6] بالرغم من وضوح أن هذا خطل من القول، فكيف يمكن أن يكون رسولاً وهو لا يعلم بمكنونات رسالته؟

بينما كانت هذه المسألة محلولة لدى شيعة أئمة أهل البيت عليهم السلام، لأن فترة وجود المشرّع المعصوم صلوات الله عليه لديهم امتدّت إلى ثلثي القرن الثالث الهجري، ومع إصرار مدرسة أهل البيت عليهم السلام بأن الرسول صلوات الله عليه وآله كان بلاغه تاماً، ولكن هذا البلاغ حينما لم تستطع الأمة لسبب أو لآخر أن تستوعبه أو تهضمه او تسمعه، لم يك إلّا أهل البيت عليهم السلام الذين استودعوا هذا العلم كي يبلغوه من لم يسمعه أو من لم يعيه ويعرفه من هذه الأمة، وما من ريب أن هذه المهمة تحتاج إلى عدة أجيال، وليس إلّا جيل واحد محدود في الزمان والمكان، ومن هنا كان قوله صلوات الله عليه وآله في حديث الثقلين: إني تارك فيكم الثقلين، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا كتاب الله وعترتي أهل بيتي، فإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض.

وفي كل هذه الفترة كان المعصوم صلوات الله عليه يضخّ في المنظومة الفقهية إن في النص أو في سلوك المتشرّعين الكثير مما يمنحها قدرة التفريع لتستوعب بالنتيجة شتى مجالات الحياة، مما أبقى الإمامية (زاد الله في شرفهم) متفوّقين بشكل ساحق في فقههم التشريعي أمام مستحدثات المسائل، أو في فقههم الاحتمالي الذي يتم التشريع فيه بناء على تلك الأصول التي أطلقها المعصوم، وهي تتسرب إلى كل احتمال يلوح في أفق عملية التفريع التي طالب بها الإمام الرضا صلوات الله عليه في الحديث الذي مر معنا آنفاً، مما جعل الفقه الإمامي مكتفياً أمام كل المستجدات التي واجهت شيعة أهل البيت عليهم السلام، ولعل إطلالة صغيرة على فقه المستحدثات لدى فقهائنا المعاصرين ما يكشف أن فقهاء الشيعة احتفظوا بأصالتهم في التبعية للمعصوم في تفريعهم الفقهي، وتعاملوا مع مستحدثات الأمور بمرونة عالية لم تسلبهم أصالتهم.

يبقى علينا أن نشير إلى أن مقام الإمامة أكبر بكثير من مجرد تبيان الأحكام، إذ ما معنى أن يقطع النبي إبراهيم صلوات الله عليه أشواط النبوة كاملة، ليقول له البارئ عزّ وجلّ من بعد ذلك كله: {إني جاعلك للناس إماماً} فهذا المقام قد جُعل لإبراهيم عليه السلام من بعد ابتلائه بأدوار النبوة التي عبّرت عنها الآية الكريمة بالكلمات: {وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن}[7]، ومن الواضح أن الجعل لا يتم من دون استحقاق الجُعالة، إذ لا ترجيح بدون مرجّح، وقد جعلت عملية إتمام النبوة سبباً لهذه الجُعالة.

مما يعرب لنا بوضوح أن مقام الإمامة وفق التصوير القرآني يتجه بالأمور إلى أعلى بكثير مما يضعه الناس لهذا المقام، وتعالوا لنضرب بعض الأمثلة فقد تحدّث القرآن الكريم عن أن الله سبحانه وتعالى قال لملائكته ـ وهم هنا أعاظم الملائكة وكبّارهم ـ: {إني جاعل في الأرض خليفة}[8] ولنا هنا أن نتساءل عن سبب الحديث مع الملائكة أوّلاً، ولم يك مع آدم عليه السلام هنا؟ ولم تحدّث بمنطق الجعل ولم يتحدّث بمنطق الإرسال أو الإرادة؟ ثم لماذا أثار هذا الموقع فزع الملائكة الشديد أو استغرابهم والذي أطلقته عبر الإشارة إلى واقع الأمور التي تجري في الأرض بقولهم: {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء} وقد اختصرت بهذه الكلمات القليلة كل المفردات الخاصة بعملية الهداية الربانية.

فمن جهة أشارت إلى مشكلة التشريع، ومشكلة تطبيقه، وطبيعة دوره الناظم لمنع العدوان في المجتمع بصورتيه الذاتي والاجتماعي، وإلّا لما حصلت عملية الإفساد، فالإفساد لا يكون إلّا من خلال التجاوز على الحق الذاتي أو العام، ووجود الطبيعة بمواصفاتها التي تعرفها الملائكة والتي سبق لها أن كانت وسائط الله سبحانه وتعالى في إيجاد مصاديقها، لأن الله يتنزّه عن مجانسة مخلوقاته، مما يعني أن الملائكة أدركت أن إدارة هذه الطبيعة بما انطوت عليها من إمكانات وثروات لن تكون إلا من خلال شريعة ناظمة ومن خلال وجود الساهر على عملية النظم هذه، وإلا لما طرحت نفسها لكي تكون هي الساهرة على هذا النظم، وقد أدركت أن هذ الناظم يحتاج إلى مواصفات قصوى في العدالة والإيمان لكي يؤدي حق الأمانة الملقاة على عاتقه، مما جعلها تقدّم مواصفاتها الخاصة بهذا المجال دون بقية مواصفاتها الأخرى حينما أشارت إلى كونها تسبّح وتقدّس الله تعالى.

ومن جهة أشارت إلى مشكلة الهداية وقيادة الناس نحو الله تعالى، فبسبب افتقادها سيتقاتل الناس لأن النظم البشرية بطبيعتها، وفي أحسن ظروفها لن تهتم بالعمل على تهذيب المحتوى الداخلي للإنسان، لأن هذا المحتوى مشتمل على فجور النفس وتقواها، مما يجعل هذا المحتوى عبارة عن برميل متفجرات يمكن له أن يتفجّر في كل مرة تتاح له الفرصة، إن لم يتم العمل على ضبط النزوع باتجاه الفجور، لأنّ ذلك سيجعل هذا المحتوى نزّاعاً باتجاه الاستحواذ، والاستحواذ بطبيعته سيؤدي إلى الصراع، ومن ثم لنجد كل ما يمكن للصراع أن يفرزه من تقاتل وإفساد وسفك للدماء.

ومن جهة هي تعرف أن الله سبحانه وتعالى سخّر في هذه الأرض كل شيء، وهنا لا أقصد صور التسخير الاعتيادية التي أتيحت لعامة الناس من سير وتوقف وقفز والتصاق بالأرض وما إلى ذلك فهذه بصورة عامة متاحة حتى للحيوانات، بل أتحدّث عن عملية التسخير بصورتها الكبرى والتي كانت كل كرامات الأنبياء عليهم السلام أو ما يسميه الناس بالمعجزات جزءاً صغيراً جداً من عالم التسخير الشمولي الذي أشار إليه سبحانه وتعالى بقوله: { أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ}[9] ولو قدّر لهؤلاء الناس أن رأوا شيئاً يسيراً من عالم التسخير هذا، هو عالم الثروة والتملّك، فتقاتلوا وأفسدوا وسفكوا الدماء من أجل الاستحواذ عليه، فما  بالك لو اطّلعوا على ما هو أعظم منه؟ ولهذا لا يمكن لهذا العالم أن يبقى من دون الجهة التي تؤتمن عليه وتديره لأغراض المهمة الربانية، وإلّا لتعاظمت عملية الإفساد التي حذّروا منها، وقد عرّف الله سبحانه وتعالى أن هذا العالم سيختلط معه الظلم والكفر كما في قوله تعالى: { الله الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ*وَآَتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ}،[10] ولا شك أن الناهض بعملية الخلافة يجب أن يكون المناقض الموضوعي للإنسان الظالم الكفّار، أي سيكون الإنسان المعصوم الذائب في الله تعالى.

وما معنى أن يجعل الله في الأرض خليفة، ولا يرتضي للملائكة المسبّحة بحمده والمقدسة له أن تكون هي ممثلة الخلافة، بل هو الذي ينتقي لهذه المهمة ومن غير هؤلاء الملائكة، مع أن هناك تسليماً بأن في الأرض من سيفسد فيها ويسفك الدماء؟

وما معنى أن يعرض الله سبحانه وتعالى الأمانة ويصوّر هذه الأمانة بأنها أثقل من السموات والأرض والجبال، ويشير إلى أن الإنسان العادل غير الجاهل هو الذي حملها، بعد أن استثنى من الحمل من كان ظلوماً جهولاً؟!

وما معنى أن يذكر الله سبحانه وتعالى أنه سخّر للإنسان كل شيء في السموات والأرض، ويستثني من عملية التسخير هذه من كان ظلوماً كفّار؟!

وما معنى أن يطرح الله سبحانه وتعالى الشهادة على الرسالة لأناس غير الرسول صلى الله عليه وآله، ويستثني من لا علم كامل له بالكتاب؟![11] وما من ريب أن الشهادة هنا تستدعي العلم التفصيلي بكل ما فيها، وإلا لكانت شهادة ناقصة، وحاشى لله أن يضع الشهادة لرسالته بصورة ناقصة.

وما معنى أن يذكر الله تعالى الراسخون في العلم[12] ـ وهم هنا نفس الشاهدين للرسالة ـ ويستثني من هذه الدرجة من في قلبه زيغ؟!

وما معنى أن يحدّثنا الله سبحانه وتعالى عن أن القلوب الخالية من أي نمط من أنماط هذا الزيغ هم مخلوقات خاصة سمّاها بأهل البيت حينما قال في سورة الأحزاب {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً} والرجس أصغر من الزيغ، وهو لم يذهبه منهم، وإنما أذهبه عنهم إشارة إلى أنهم لم يقارفوه أبداً.

وما معنى أن يشير الله تعالى إلى منزلة الأعراف ويستثني منهم أهل الجنة والنار؟![13] ليدلّ على جهة أكبر من الجنة والنار، بل إن الجنة والنار تحت تصرفها، وهذا ما لا يمكن استحقاقه إلّا من قبل نفس الجهة التي استخلفها الله تعالى للقيام بالمهمة التي بسببها وجدت الجنة والنار، ولهذا وجدناهم يخاطبون أصحاب الجنة والنار في يوم وصف بعدم قدرة أحد على الكلام {إلّا من أذن له الرحمن وقال صواباً}[14]، بل ونجدههم هم الذين يأذنون لأصحاب الجنة بدخولها وهم الذين يأمرون بحرمان أهل النار: {ونادى أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم قالوا ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون*أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون* ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله قالوا إن الله حرمهما على الكافرين}[15].

إن هذه الأسئلة ومثيلاتها تدلّنا فيما تدلّنا وفي أقل التقادير على وجود سلم يرتقي فيه الوجود الإنساني من أدنى درجة للظالمين إلى أعلى درجة في الكاملين، وحينما نتحدّث عن هؤلاء الكاملين لا يمكن لنا أن نتصوّر أن وجودهم طارئ في الزمن لا سيما في شأن الخلافة والأمانة والولاية والشهادة والعلم والآخرة والتي هي ركائز وجود عملية الهداية الربانية، بل لا بد أن نجد لهم وجوداً اجتماعياً يتجسّد على طول الزمن، لأننا لا يمكن لنا أن نتصوّر خلو الوجود  من دون وجود خليفة لله بكل ما تعني الخلافة من معنى، لأن انتفاء الوجود الاجتماعي لهذا للخليفة سيحقق كل ما تحدّثت عنه الملائكة، وبالتالي سينفي وجود مهمة الهداية الربانية بكاملها، مما ينفي معه وجود الحجة البالغة لله على خلقه في زمن انتفاء الخليفة، وهذا أمر لا يعقله عاقل، فتأملوا!

ولهذا أكّد أئمتنا صلوات الله عليهم أن انتفاء الحجة مدعاة لزوال الأرض وما عليها، كما في قول الإمام الباقر صلوات الله عليه: عن أبي جعفر ( عليه السلام ) قال: قال: لو أن الإمام رفع لماجت الأرض بأهلها ، كما يموج البحر بأهله.[16]

وكما في قول قول زرارة قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: يمضي الإمام وليس له عقب؟ قال: لا يكون ذلك. قلت: فيكون ماذا؟ قال: لا يكون ذلك إلّا أن يغضب الله عز وجل على خلقه فيعاجلهم.[17]

وكما في قول حمزة بن الطيار: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: لو لم يبق من أهل الأرض إلّا اثنان لكان أحدهما الحجة.[18]

ويمكن للتفصيل مراجعة كتابنا: الإمامة ذلك الثابت الإسلامي المقدّس.

على أي حال يمكن لنا أن نتلمس مصداقية كل ذلك ونحن نرى كيف استشرى الفساد في حال عدم إتاحة المجال للإمام صلوات الله عليه للقيام بمهمة إدارة الشأن العالمي في تفاصيله السياسية والإجتماعية والاقتصادية وأمثالها، فما بالك لو انتفى كل وجوده؟!


[1] السرائر 3: 575.

[2] الكافي 6: 408 ح7.

[3] سورة الأعراف: 12.

[4] أي أن الرسول صلوات الله عليه وآله بلغ بشكل كامل، ولكن لم تصل كل أخبار هذا البلاغ لسبب أو لآخر.

[5] سورة الأنعام: 149.

[6] سورة آل عمران: 7.

[7] سورة البقرة: 124.

[8] سورة البقرة: 30.

[9] سورة لقمان: 20.

[10] سورة إبراهيم عليه السلام: 32ـ34.

[11] كما في قوله تعالى: {ويقول الذين كفروا لست مرسلاً قل كفى بالله شهيداً بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب} [سورة الرعد: 43]

[12] المشار لهم في قوله تعالى: ﭽ هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألبابﭼ. [سورة آل عمران: 7]

[13] سورة الأعراف:  46ـ50.

[14] سورة النبأ: 38.

[15] سورة الأعراف: 48ـ50.

[16] دلائل الإمامة: 435 ح403.

[17] كمال الدين وتمام النعمة: 204 ب21 ح13.

[18] كمال الدين وتمام النعمة: 203 ب21 ح10.

التعليقات
الحقول المعلمة بلون الخلفية هذه ضرورية
مواضيع مختارة
twitter
الأكثر قراءة
آخر الاضافات
آخر التعليقات
facebook
زوار الموقع
50 زائر متواجد حاليا
اكثر عدد في نفس اللحظة : 123 في : 14-5-2013 في تمام الساعة : 22:42
عدد زوار الموقع لهذا اليوم :6306
عدد زوار الموقع الكلي: 27022004
كلمات مضيئة
يا فرج الله متى ترانا ونراك؟