تمر بنا كلمة الشهيد كثيراً، حتى بات وقعها في نفوسنا متفاوتاً، ففينا من قد لا تعنيه الكلمة كثيراً، أو أنها لكثرة استخدامها ولكثرة الشهداء ما عادت لتعني في النفس نفس الوقع الواجب أن يقع في النفوس، ولعل انخفاض مستوى المخاطر جعل الإحساس بقيم الشهادة لدى الكثيرين لا يهز قلوبهم ووجدانهم كما كان يفعل في وقت المعارك، ولكن يا سادتي تعالوا لنفكك هذه الكلمة عن اللسان ونضعها في قالبها الواقعي، وفي هذه العملية ساكتفي بأخذ جانب من جوانب معنى الشهيد، لأني أشعر أن المقام مهما تحدثنا عنه وفصّلناه يبقى أكبر من أفكارنا ومخيّلاتنا، وكيف لا؟ والله تعالى يشير إلى قصور هذا التصور حينما يقول: ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون.
الشهيد قبل أن يتضمخ بدمائه كان رجلاً له كل ما نمتلكه من واقع ومشاعر وآمال وتطلعات، وكانت الحياة مفتوحة امامه كما هي امامنا.
كان لديه عائلة.. أو هو فرد عزيز في عائلة.. او يطمح لتأسيس عائلة، وكثير منهم كانوا على وشك ان يؤسسون عائلة..
كان له أب وأم.. أب يترقب فيه مستقبلاً، وأم تأمل فيه عريساً..
كان له أخ يتطلع أن يكون له عضداً.. وله أخت كانت تنظر إليه منعة وستراً..
كان لديه ابن ينظر إلى باب الدار متى يقبل لكي يحتضنه ويلاعبه، وكانت له بنت تحن إلى حضنه وتتغنج بين يديه، هذا يتسوّر أكتافه، وتلك تحيط رقبته بصغير أذرعها ..
كان لديه زوجة تعتبره ملاذها وملجئها ومستقر حياتها ومستودعها..
وهو كان ينظر إلى أبيه المحني الظهر يستعجل الأيام كي يكبر لكي ينهي أتعابه ويعينه ويتشرف بواجبات البر..
وأمه هذه التي سهرت وتعبت وعطفت وأضنتها الأيام من أجل أن ترى فيه الرجل الذي يسعد أيامها ويملأ شغاف جوانحها ببره وعطفه، وهو كان يسابق عمره لكي يعوّضها عما قدمته له من فيض حنانها ومن نبع محبتها ومن رافد عطفها..
ابنه الذي ينظر إليه وهو يحار كيف يظلله بظلال الأبوة ويحميه برداء الرعاية ويرويه من نهر العواطف وبحره الذي سيكابد الدنيا من أجل أن يتقوى على عوده ويرى فيه ثمرة عمره ومجهود أيامه..
ابنته التي أقبلت على الدنيا كوردة يانعة تتفتح مع الأيام ويعمّ شذاها على تعب دنياه وهو يسبح في آماله في تربيتها وصونها وسترها وقيادتها لبيت سعدها وجميل مستقبلها..
زوجته التي تركت الأهل من أجله، وأتعبت الأيام وما تعبت من أجل محبته ومن أجل ولده، وآماله في كيفية أن يعوضها حناناً ويملأها عزيمة ومثابرة وصبراً لإدامة مشاركتها إياه في مسؤوليته..
كان لديه أصدقاء أيها السادة يخلو إليهم وتحلو أيامه بضحكتهم ومزاحهم وعبثهم وجذلهم..
كل ما لدينا كان لديه، وكل إحساس نحس به قد مرّ به، وكل عواطف اجتاحتنا كانت قد اجتاحته..
ولكنه ترك كل ذلك وراء ظهره ورحل بإرادته!!
ترى هل هو عاقل كي يترك كل هذه الأحلام الوردية والآمال الكبيرة والكنوز العظيمة وراء ظهره؟ لا شك أنه لن يكون عاقلاً لو أنه فعل ذلك بلا هدف اعتبره أغلى من كل هذه الآمال والتطلعات والأحلام والكنوز، أما إن كان قد فعل ذلك وقبل راضيا أن يفارق كل ذلك بدم يشخب من شرايينه وبهامة قد جرّحتها الشظايا وافترستها المفخخات وبأوصال قطعتها الألغام والصواريخ، وبجبهة طالها القناص لأنه لم يجد لظهره سبيلاً، وبجسد احتوشت أنياب عدو لو تسلط لما بقي شيء منا أبداً..
أتراك يا صاحب التجارة كنت تبقى لتجارتك لو لا هذا الرجل الذي نظر إليك تنعم بتجارتك فآثر أن يحميك بدمه وبروحه؟
أتراك يا أيها الطالب كنت تستمر بدراستك لولا أن هذه الرجل رأى أن مدرستك وجامعتك ومستقبلك جدير بأن يحميها بجسده وبأوصاله
أتراك يا أماه ويا أختاه ويا بنتاه كان لعرضك أن يبقى مستوراً، ولحريتك أن تبقى مكفولة من أن تكوني سبية يبيعها الداعشيون والطائفيون وحلفائهم من البعثيين في سوق نخاستهم أو يتهادونها من واحد لآخر لو لا هذا الرجل الذي وجد أن غيرته ومسؤوليته تأبى أن يبقى في جسده دم يسيل ونفس ينبض دون ان يقف في سواتر العز لكي يحمي هذا العرض ويصون هذا الشرف..
أتراك أيها الموظف وأيها المعلم وأيها المحامي وأيها المقاول وأيها الصحفي وأيها ... وأيها ... كان بإمكانكم أن تبقون وتروحون وتجيئون وتمضون لعوائلكم آمنين ولأرزاقكم مطمئنين لو لم ينتفض رجل الشهامة ونكران الذات هذا ليحميكم بأشلائه التي قد تكون ضاعت بين التراب، ولأوصاله التي ربما لم يصل بعضها إلى قبره..
أتراك أيها الوطن كنت لتبقى؟ لولا هؤلاء الفتية الذين برزوا بكل أريحية ونكران ذات إلى مضاجعهم يزرعون في أفيائك نصراً، وفي رحابك رجولة، وفي أرجائك مقاومة، وفي أهدابك عزة، وفي أحنائك كرامة، وفي جبينك سؤدداً، وفي تاريخك مجداً، وفي ثراك حرية، وفي ترابك روضة وقدساً..
ماذا عسانا أن نقول لك يا أبا محمد رضا في ذكرى يوم فتياك الأغر؟ وقد تناهت إلى أسماع فتيان الدين وحماة المذهب وغيارى العرض فجعلتهم أسوداً في النهار ورهباناً في الليل، يصوغون للعراق بدمائهم أعظم نصر، ويصنعون له بارواحهم أعز الأمجاد، ويضوعون سماءه بأشذى العطور.
وماذا نقول لكم أيها الراحلون على طريق الكرامة والفداء ويا صناع النصر ورجال الفتيا المباركة، وكل ما نملك وما سنملك ما هو إلا منّة منكم وسخاوة من نبلكم وعطائكم؟
لن أقول أي شيء فأنتم أكبر من كل كلمة وكل كلمة تريد تمجيدكم تبقى أخرس من أن تنطق، وما من بلاغة تطال عظمتكم وإيثاركم، وما من بيان يقدر على وصف كرمكم وفدائيتكم..
ولكن هو عهد تعاهدناه وطريق اختططناه أسأل الله أن لا يحرمنا مما حباكم به من كرامة وأولاكم به من عاقبة فنعمت العاقبة التي فزتم بها ونعمت الطريق التي سلكتموها، ونعمت الجنة التي وفدتم إليها..
ولك من بعد كل ذلك سيدي ومولاي يا صاحب العصر والزمان صلوات الله عليك في أيام ولادتك العاطرة ميثاق الولاء وبيعة الصدق على طريق صاحب الفتيا ونهج الراحلين إلى أجدادك الطاهرين صلوات الله عليهم من المضمخين بدمائهم والمعطّرين بأنفاس مقبولية أعمالهم وزكاوة أنفسهم.
جلال الدين علي الصغير