في تقديري ان الضربة الايرانية باسقاط الطائرة الامريكية كلوبال هاوك تنطوي على تداعيات امنية ميدانية خطيرة للغاية ليست باقل من تداعياتها السياسية ان لم تفوقها أو على الأقل ستترك بصمات ثقيلة عليها، فالطائرة التي أسقطت من نوع الشبح المتخفي، ولهذا فإن اكتشافها من قبل الايرانيين، لوحده يمثل مفاجأة مزعجة للغاية بالنسبة للأمريكيين وحلفائهم، وهي من النوع الذي يطير على ارتفاعات عالية جداً قد تصل الى عشرين كيلومتراً، وبالتالي فإن صيدها بهذه الطريقة يمثل مفاجأة ثانية وبعيار ثقيل، لأنه سيعني أن الطائرات المقاتلة الامريكية كالأف ٣٥، وغيرها فضلاً عن طائرات ب٥٢ ستكون هي الأخرى مكشوفة لمنظومة الدفاع الجوي الإيرانية شكلاً ومضموناً، والأنكى من كل ذلك أن الأمريكان لم يكتشفوا الصاروخ الذي صادها، وهم إن اكتشفوه لم يستطيعوا تلافيه، وهذا فشل اضافي يضاف الى سابقيه، وكل ذلك ربما يفسر لنا حالة الاضطراب الذي تمثل به رد الفعل الامريكي، فهم لم يتكلموا عن الأمر إلا بعد مرور اثنى عشر ساعة، وبعد أن نفوا الحادث أولاً، عادوا ليأكدوه، ومن بعد أن قالوا ان الطائرة اسقطت على بعد ١٧ كلم من المياه الايرانية، عادوا وقالوا انها كانت على بعد ٣٤ كلم، ثم اختتم ترامب هذا الاضطراب بتهوين ما جرى معتبراً إن ما تم ربما نجم عن اشتباه او خطأ!!، ولم تنته الامور عند هذا الحد وإنما أضافت ايران للطين الأمريكي بلة، حينما كشفت مسار الطائرة من لحظة اقلاعها من قاعدة الظفرة في الامارات الى حين اسقاطها، وهذا الامر يظهر أن التخفي لم يفتضح في الأجواء العالية وبعد ساعات البحث الطويلة، وإنما كان مفضوحاً منذ بداية الانطلاق من الأرض، وهذا فشل آخر، فيما يسجل للايرانين تفوقاً اضافياً.
من المعلوم ان الايرانيين سبق لهم أن اصطادوا طائرتين أمريكيتين سابقتين عن طريق السيطرة السيبرانية وتمكنوا من مصادرتهما بعد أن تم قرصنتها في الجو واقتيدت إلى أحد القواعد الجوية، ومع أن تلك العملية فاجأت الجميع بالقدرة الالكترونية الفائقة التي يتمتع بها الايرانيون، الا ان اصطياد طائرة كلوبال هاوك وهي من طراز متقدم على تلك الطائرات، يضفي أبعاداً دراماتيكية على طبيعة الجاهزية القتالية الامريكية، في نفس الوقت الذي يبرز تقدماً نوعيا قاهراً في الجانب الايراني، خاصة اذا ما قرنت هذه الأمور بطبيعة الفشل المتراكم المقارب للفضيحة لمنظومة الأواكس والرصد الأمريكية التي تعهدت للسعودية والإمارات أنها ستحمي أجواءهم، في وقت كانت الدرون اليمنية وصواريخهم تخترق الأجواء وتصل الى أهدافها بكل سرية ويسر. وكل ذلك سيترك أسئلة كثيرة بلا أجوبة وكلها تشير الى أن الجبروت الأمريكي يتم تمزيقه بإرادات لم تعهدها أمريكا من قبل، واللافت أن ذلك يتم بإرادات وكلف هي أقرب الى الإرادات الشعبية منها الى الإرادات الحكومية.
أنا متأكد أن ما جرى اليوم في مضيق هرمز يحمل رسائل جادة وفي اتجاهات متعددة، ولن أستغرب إن ما كان لبعض هذه الرسائل إمتدادات استراتيجية أعمق وأبعد في مدياتها من الآفاق المنظورة، وفي تقديري أن أول هذه الرسائل ربما نجد جوابها في اللغة التحذيرية التي وسمت حديث السيناتور غراهام الذي طالب بالبحث عن طريقة مناسبة للتعامل مع ايران وان لا تذهب أمريكا الى اي مغامرة دون ان تحسب ذلك جيداً، ومن نافلة القول أن معطيات البنتاغون ستكون أخطر مما يراه اهل السياسة، إذ يبدو للوهلة الأولى أن خيارات الإستفادة من الضربات الجوية المفاجئة انتفت، وأن الحديث عن قدرات اف ٣٥ على التخفي وبي ٥٢ الفائقة في إلقاء حمولاتها أصبحت عسيرة، وأياً ما يكن فإن خيارات الحرب التي كان البعض يصورها بأنها هي الراجحة وأنها بالنسبة للقوة الجوية الأمريكية ستكون نزهة سهلة، قد أصبحت أصعب مما كانت عليه الحال قبل هذه الحادثة، ولعلي ألمس أن أجواء مختلفة للتفاوض عما كانت عليه الحال غدت هي الأقرب، لاسيما بعد موقف الكونغرس الذي استعاد صلاحيات بدء الحرب من الرئيس الأمريكي، وبعد المسعى الأوربي الذي غدا اكثر تشدداً بالحفاظ على الاتفاق النووي مع طهران حتى وإن أخل بمنظومة العقوبات الامريكية المفروضة على الجمهورية الاسلامية، وهو ما يؤكده بيان الاتحاد الاوربي الذي صدر في اعقاب الحادث.
إن الطبيعة الشخصية للرئيس الأمريكي التي تتسم بالنزق أكثر مما تتسم بالتعقل، ربما تخل بميزان التوقعات العقلائية، خاصة وأنها تتفق مع نزق محمد بن سلمان الذي يقوده ابن زايد، وتثريه شراهة نتن يا هو، ولكن طبيعة ما يهيمن على هذا المشهد من معطيات ميدانية التي بينا بعضها فيما سبق ربما مكنت مراكز الضغط والعقل من أن تثني عصابة تحالف أعراب النفاق مع مارقة الروم والصهاينة عن أحلام الصبيان.
إن من الحصافة بمكان أن تتهيأ شعوب المنطقة الى كل ما يمكن أن يترتب على ذلك، ولا اشك ان العراق لن يكون منعزلاً عن كل ذلك، ولهذا ادعوا الى المزيد من الاستعداد لمواجهة كل ما يترتب على المنطقة من استحقاقات، فالاستعداد يقي من الخطر ويردع المعتدي أو يحجم من قدراته، والتغافل وان كان مريحاً الى الاعصاب الا انه قد يفتح صفحة هزيمة مدوية.
وآخر دعوانا أن الحمد لله أولاً وآخراً، وصلاته وسلامه على رسوله وآله أبداً.
جلال الدين الصغير