كم يعزّ عليّ يا أبا قحطان أن أكتب في رثائك وانت الذي أدين له في جانب من صياغة تكويني الوجداني، وكم كنت اتمنى لوأنك كنت أنت الراثي وأنا من ترثيه، ولكن عزائي يا أبا الشهيد قحطان أنك وفدت الى رب كريم ورحيم ووفي ليوفيك جزاء المحسنين، ورحلت سعيداً مطمئناً إلى رحاب أجدادك الطاهرين صلوات الله عليهم، ومن يرحل إلى الكرام فنواله الإعزاز والإكرام حتماً…
وإذ يتوفاك الله بعد الأربعين مباشرة ياسيدنا الطويرجاوي فلعل سيدة الأربعين صلوات الله عليها الوافدة إلى قبر أخيها الحسين عليه السلام أبت إلا أن ترحل معها كي تكون انت خطيب الجنان في الثامن والعشرين من صفر لترثي وتنوح وتئن وتنعى جدكم المعظم صلوات الله عليه وآله، فلست أقل شأنا في الرثاء من أبي هارون المكفوف رحمه الله حينما طالبه الامام الصادق عليه السلام أن يقرأ بالنياحة قصيدة السيد الحميري بشأن جده الحسين صلوات الله عليه:
امرر على جدث الحسين وقل لأعظمه الزكية
يا أعظماً لا زالت من وطفاء ساكبة روية
ما لذ عيش بعد رضك بالجياد الأعوجية
الى أن يقول: وابك المطهر للمطهر والمطهرة الزكية…
أو لعل سيدة الجنان وشفيعة المحشر أبت هذه السنة في أيام الفواطم وأحزانها إلا أن يكون ناعيها هو الملقب بناعي الزهراء في الدنيا وأحسبك عندها وأنت تتمثل أبيات عبود غفلة رحمه الله في شأن الغدر الذي جرى وراء الباب:
باب كلها إجذوع وإثگيلة وزن...لو هوت عالقاع ترجنها رجن.
لا أشك لحظة يا سيد جاسم أنك حظيت بحفاوة بالغة وأنت في أحضان جدتك الزهراء بأبي وأمي، وكيف لا تكون كذلك؟ وأنت الذي ابتدأت مسيرتك على أعواد المنابر ناعياً منذ باكورة صباك في العاشرة بأبيات المرحوم السيد رضا الهندي:
إن كان عندك عبرة تجريها … فانزل بأرض الطف كي نسقيها
وقد حللت الآن عند من كانت تبحث عمّن يسعدها بنعي الحسين، وعلى مدى ما ينيف على الستين عاماً في مسيرة المنبر كم أدميت القلوب حسرة، وأفعمت العيون عبرة على الحسين وآل الحسين، ولذلك أحسب متيقنا أن لقاءك بجدتك الزهراء صلوات الله عليها سيكون لقاء المؤنس المحبوب… فيا لنعماك
وكيف لا تحتفي الزهراء وآلها صلوات الله عليهم بمؤنسهم؟ وأنت من آثر مسار إحياء أمرهم على أي أمر آخر، وعمل على إثارة العواطف والأحاسيس لواعيتهم، والتذكير بما جرى عليهم من مظالم وفواجع تتصدع لها القلوب وتهلع فيها الأفئدة، وما كان لك أيها السيد الجليل من همّ بقدر ما أهمك أن تشعل في قلوب الموالين نار الوجد والعشق بل والذوبان في محبة الآل الكرام، ولطالما بينت لجمهورك طبيعة المقام المعظم والمقدس الذي أنزل الله فيه أجدادك البررة والعترة المطهرة، فكان لكل كلمة منك،ولكل أنّة من أنّاتك، ولكل زفرة من زفراتك رجيعاً من ملايين الوالهين الذين كانوا يتجاوبون معك بدموعهم السخية المتحسّرة على حقهم، وأنين يقضّ المضاجع نفرة من ظالميهم، وصرخات تلهب العزم على المضي في صراطهم الرباني السوي ومخالفة كل صراط وسبيل آخر.
هنيئاً لك يا سيد جاسم فلقد أنهيت رحلة التكليف وأنت مكلل بأبهى التيجان، لتستقر في محضر أجدادك الكرام وشفعاء يوم المحشر، وكيف لا تكون كذلك والحسين عليه السلام يقول: من زارني زرته، وانت لم تزره فحسب، وإنما كانت لك أياديك البيضاء على عشرات الآلاف إن لم أقل مئات الآلاف التي زارت الحسين لأنك عرفته لهم، وبكت الحسين لأنك كنت السبيل الى دموعهم وأنينهم وضجيجهم… فجزاك الله عنا وعن كل عين أبكيتها وقلب أحزنته وفؤاد أثرت لوعته خير جزاء المحسنين، وأبدل الله عناءك في الدنيا وفقدك للأحبة بما يسعدك بما لاعين رأت ولا اذن سمعت ولا طرأ على قلب بشر، وعوضك عن آلام المرض براحة أبدية إلى جوار الشهداء والصالحين والمقربين من عباده والخاصة من أوليائه…
وإني والله مدين لك بالكثير مما أختزن من بعد وجداني لأنك كنت السبب في وجوده، فلقد كانت الليالي الرائعة التي كنا نقضيها في ليلة الجمعة تحت قبة الحسين ع في عام ١٩٧٢ وما تلاه من الأعوام قريباً من منتصف الليل، ونحن نستمع اليك في حديث الولاء الصادق ما كان ينمّي أفكارنا ويشدّ أعوادنا ويثبّت قلوبنا، ووالله يا سيد جاسم حيث فرقني عن تلك المجالس السجن غير انك لو سألتني وقتها عن أحد الأسباب التي كانت تدفع بي لطلب الفرج من الله جل وعلا لوجدت ذلك في الشوق الى ذلك المجلس النوراني الذي كنت تجمعنا فيه تحت القبة المشرفة وإلى تلك الدمعة التي كنت تتفنن في إخراجها من مآقينا ونحن نصيخ السمع الى نعيك وتموج قلوبنا مع اللوعة التي كنت تنثرها وتبذرها فينا.
وحينما فرقت بيننا الأيام والأحداث كم كنت كريماً حينما كحلت ناظري وأنا أجدك مشرّفاً لمجلسنا في حسينية الصديقة الطاهرة ع في جوار سيدة الهاشميين وفخرهم الحوراء زينب في دمشق أواخر التسعينات، وإن كنت أنسى فلن أنس ما عبرت عنه بعد المجلس بطلبك في أن تقرأ في الحسينية، ولو ليوم واحد لانك وجدت فيها روحانية خاصة قلت انك لا تجدها في غيرها…
واليوم إذ تقفل راحلاً عنا في وقت تمسّ الحاجة فيه لمثلك، ولكن هيهات وأنى لبقائك أن يدوم بيننا ورحيلك يا ابا قحطان امتثال للمحبوب، بل ربما كان هو دعوة أكثر مما هو وفاة، فمثلك من يكرّم، وقد دعاك من تحسن عندهم الوفادة، وقد رأوك قد أحسنت المسار إليهم فكأنهم قد تلهفوا للقاك وسارعوا كي ينتزعونك من تعب المسير وعناء السفر وآلام الجسد وأتراح الأيام الكالحة لتمضي لهم ويا لهنائك ومنادي قصورهم كأنه ينادي باسم الوافد الذي يبتهج لمقدمه المقيمون: ها قد أقبل ناعي الزهراء في الدنيا!!… وأياً من حضّار وكبّار ذلك المشهد الذي حللت فيه من لم يسجل في ديوانه اسمك امتنانا لإحياء أمره وإدامة ذكره؟ ومن منهم من لم يجد في شجائك له ذكراً، وفي نعيك إياه نشرا؟
كما التقيتك يا سيد جاسم أول مرة تحت قبة الحسين عليه السلام شاء الله أن أودعك أيضاً تحت قبة الحسين صلوات الله عليه، فلقد هممت بالدعاء لك يوم الأربعين بعد الزيارة في أن تشفى من المرض فاحتبس لساني عدة مرات، فأحسست أنك مودع يا أبا هادي فما وجدت غير الدعاء لك بالسعادة والهناء وقبول العمل وحسن الخاتمة كي تكون هي كلمات الوداع، فطب نفساً بما خلّفت من طيب الذكر ومحمود السيرة وجميل الأثر، ولتهنأ نفسك وأنت في حفاوة العترة الهادية وامهم الصديقة الطاهرة صلوات الله عليها وعليهم، وأنا على يقين أن شجرتك التي أثمرت سماحة السيد هادي حفظه الله ستبقى تورق بما يقر عينك من صدقات جارية وحسنات متوالية…
وإذ ترحل يا أبا هادي فإنك تترك فينا أمانة ويخلّف فراقك عنا فراغاً لا يسهل سده وصدعاً لن يهون رأبه، ويحمّلنا رحيلك مسؤولية فسل لنا حسن العاقبة كي نبقى في جموع البكّائين على الحسين الناهضين بإحياء أمره، والعاملين على طلب ثأره مع إمام منصور من أهل بيت محمد صلوات الله عليه وعليهم.. فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولاحول ولا قوة الا بالله العلي العظيم…
جلال الدين علي الصغير