بسم الله الرحمن الرحيم

سماحة الشيخ جلال الدين الصغير

242: هل هناك تغيييرات حدثت لكي يكون العراق حالياً يختلف عن الماضي؟ ويكون قاعده رصينة يستند عليها اليماني الموعود عنده ظهوره المبارك؟.


242: هل هناك تغيييرات حدثت لكي يكون العراق حالياً يختلف عن الماضي؟ ويكون قاعده رصينة يستند عليها اليماني الموعود عنده ظهوره المبارك؟.

حسن فالح (مجموعة حكيميون ـ الفيسبوك): سبق وأن ذكرت صعوبة أن يكون خروج اليماني الموعود من اليمن، وذلك لعدة أسباب ذكرتها في كتاب راية اليماني الموعود أهدى الرايات، ولكن هنا السؤال: كيف يكون اليماني من العراق؟ والتاريخ يذكر أن أهل العراق خذل الائمة عليهم السلام، وقال الأئمة عليهم السلام ما قالوا حقهم، وخصوصاً أمير المؤمنين عليه السلام، هل هناك تغيييرات حدثت لكي يكون العراق حالياً يختلف عن الماضي؟ ويكون قاعده رصينة يستند عليها اليماني الموعود عنده ظهوره المبارك.

الجواب: ما ذكرتموه عن الأئمة صلوات الله عليه ليس كلاماً مطلقاً لكل الأزمان، فعلى الأقل هناك كلمات مادحة كثيرة لأهل الكوفة وما إلى ذلك صدرت من الأئمة عليهم السلام المتأخرين عن أحداث كربلاء، كلمات الإمام أمير المؤمنين عليه السلام بحق أهل العراق لا تخص كل الأعاصير بل هي خاصة بمن عاصرهم، ولا تشملهم جميعاً بل تشمل من عصاه، إذ لا معنى بذم من آمن به والتزم بنهجه، ودعني أسهب هنا قليلاً في تفكيك الإشكال في هذا المجال لكثرة اللبس الموجود فيه.

يعتبر الإمام أمير المؤمنين عليه السلام أول من أولى العراق أهميته الخاصة، وذلك في فترتين أولها مرحلة اخراج العراق من هيمنة الفرس الكسرويين وقد تمثلت هذه المرحلة في أن صفوة القيادات المقاتلة كانت من المجموعات الخاصة بالموالين الخاصين بأمير المؤمنين عليه السلام، وما كان لأحد أن يتصور الفتح الإسلامي واسقاط رستم لولا الدور الفذ والفدائية العالية التي أبداها هاشم بن عتبة بن وقاص المعروف بالمرقال رضوان الله عليه وهو من أخص الخواص عند الأمير صلوات الله عليه، هذا ناهيك عن مشاركة الحسنين عليهما السلام في فتح الكثير من المناطق الفارسية، وهذا الدور بالرغم من الدعاية والتعتيم الأموي والعباسي الذي ضرب عليه لكي تبدو الفتوحات وكأنها من صناعة سلطة السقيفة إلا أن الباحث الدقيق لا يعدم الإشارات الجادة في هذا المجال، وقد أسهم ذلك بإيجاد ارضية لركائز قاعدة شعبية يجرى العمل على إيجادها، ثم جاء تولّي سلمان المحمدي الفارسي رضوان الله عليه لولاية المدائن بعد الفتوحات مباشرة لكي يكمل هذا الدور.

والثانية تحويل العراق إلى وجود سياسي بدل أن يكون مجرد مخزن للعسكر ومصدر غذاء له كما كان يُنظر إليه، وقد تزامن ذلك مع هجرة عشائر بعضها عرفت بالولاء الخاص لأمير المؤمنين عليه السلام حينما كان منتدباً من قبل رسول الله صلوات الله عليه وآله إلى اليمن وأخص بالذكر منها همدان، وذلك من خلال هجره للحجاز وانتقاله إلى الكوفة، والإنتقال وإن كان فيه مطلباً ظرفياً متعلّقاً بوقته، إلا أن من يسبر موقف أئمة الهدى صلوات الله عليهم من العراق والاستيطان فيه سيرى أن موقف أمير المؤمنين عليه السلام كان يريّش سهمه بعيداً جداً عن ظرفه التاريخي، ومن ثم ليكون أحد الخيارات الاستراتيجية لمدرسة أهل البيت عليهم السلام.

ولكن هذا الانتقال والظروف التي مرت بالعراق وبعشائره لا تعني ان الإيمان استحكم في قلوبهم، ولكن القدر المتيقّن ان أي دولة أخرى ما كانت تعطي لحرب صفين والجمل كل ما أعطته العراق، وبطبيعة الحال فإن هذا العطاء استنزف القوى الإيمانية بشكل كبير، واستهلك الموارد التي تمسك بالمترددين في المواقف والمتذبذبين في الالتزامات، ولهذا نشأت ظاهرة المنافقين والمتواكلين والضعفاء المتوانين وطلاب العافية والسلامة في العراق بشكل كبير في النصف الثاني من فترة حرب صفين، وترعرعت من بعد ذلك بشكل كبير نتيجة لسياسة معاوية ومن سار من بعده، ولعل الصورة التي نراها في الجيش الذي شكّله الإمام الحسن صلوات الله عليه وهم بقايا من ثمالة الكأس الأولى إضافة إلى من أثّرت فيه حادثة اغتيال أمير المؤمنين عليه السلام فثاب إلى رشد مؤقت، ثم الصورة التي حصلت في أزمة مسلم بن عقيل عليه السلام وإن كانت قد تزامنت مع الاعتقالات الواسعة النطاق التي شملت أعيان الشيعة وأقطابهم كسليمان بن صرد الخزاعي والمختار بن أبي عبيدة الثقفي وإبراهيم بن مالك الأشتر وأولاد ميثم التمار ونظراء هؤلاء، إلا انها عكست أن المجتمع كان يعاني من كل الألوان المضادة لحركة النهضة التي أرادها الإمام الحسين وهي الألوان التي آلت بالنتيجة إلى أن يستفرد جيش يزيد بن معاوية عليهم وعليهما لعائن الله بالإمام الحسين بأبي وأمي، لتنتهي النتيجة إلى الصورة المعروفة، وكل ذلك لا يعكس ولا ريب أن المجتمع العراقي آنذاك كان قد حسم التزاماته مع التشيع، بل كان القوى النافذة فيه هي الأكثر ضراوة ضد التشيع، فلئن رأينا قتلة الإمام الحسين عليه السلام لا نرى مجرد وهن أو ضعف، بل نرى حقداً وغلاً لم ينشأ للحظته، وإنما أبرزته عوامل متعددة ما من ريب أن الولاء للتشيع ليس فيها لا من قريب ولا من بعيد.

وكأي أزمة تهزّ المجتمع لها إفرازاتها المتعددة وفي كل الإتجاهات ولكن الملاحظ أن الإفرازات المناصرة لأهل البيت عليهم السلام كانت سريعة البروز وبالصورة الفاقعة اللون، ولا يمكن لنا أن ننظر إلى حركة عبد الله بن عفيف الأزدي ولا إلى حركة التوابين التي قادها الصحابي سليمان بن صرد الخزاعي ولا إلى حركة المختار الثقفي ولا إلى حركة إبراهيم بن مالك الأشترك ولا إلى حركة الشهيد زيد بن علي وابنه يحيى عليهما السلام بانها كانت مجرد حركات منفعلة، بل كانت تعبّر ولا شك عن نمو مطّرد في القاعدة الشعبية للتشيع، وهذه الحركات وإن وئدت بقسوة وبمنتهى البربرية، إلا أنها ولا شك تمكنت من إرسال رسائل جوهرية في الحراك التغييري الاجتماعي في العراق لصالح نمو التشيع.

ولكن كل ذلك لم يك ليعني أن التشيّع هيمن على المجتمع العراقي بحيث أن العراق غدا محسوباً على التشيع، بل يمكن القول بأن الهزات الاجتماعية التي أحدثتها هذه الحركات أسهمت بشكل جاد في أمرين أولهما أن أصحاب المصالح السلطوية وأعوانهم وما يدخل في فلكهم من أصحاب النفوذ المالي والاجتماعي ما عادوا يرون التشيع ظاهرة نافقة في المجتمع أو مظهراً ناشزاً، بل نفس مظاهر القمع الشديد والعنت الشديد الذي عانى منه شيعة أهل البيت عليهم السلام ومن قبلهم أئمتهم صلوات الله عليهم في تلك الأزمنة تبرز التخوّف الشديد منهم، وهذا التخوّف ما كان ليكون لولا أن القوّة الاجتماعية الشيعية بدأت تتمدد بإطراد،

وثانيهما: أن هذا القمع بدأ يترك آثاره على المجاميع المضطهدة من قبل الأمويين بحيث ان التشيع أصبح هو قيادة المعارضة السياسية، ولأنه ليس مجرد سياسة، بل هو فكر ومنهج وسلوك ولذلك يمكن القول بأن القاعدة الشعبية الشيعية وأفلاكها وأنصارها كسبت آفاقاً أوسع، وتمددت بشكل أكبر في الفضاءات الاجتماعية المختلفة.

ولكن في نفس الوقت يمكن تلمّس المزيد من مظاهر الحقد ضد أئمة أهل البيت عليهم السلام في العراق، ولعل الحادثة التي تعرّض لها الإمام الباقر عليه السلام وابنه الإمام الصادق عليه السلام في المدائن في عهد عبد الملك بن مروان والحيلولة دون دخولهم إلى المدائن وتطريدهم إياهم ما يكشف عن نزق كبير في هذه المظاهر.

وجاء عهد الإمام الباقر عليه السلام وما حصل فيه من حراك أخيه الشهيد زيد وما لحق به من حراك يحيى بن زيد من بعده ثم عهد الإمام الصادق عليه السلام والذي أدى إلى فصل المسار الثوري المقاتل عن مسار الإمامة كمعتقد، وهو الأمر الذي فسح المجال للقواعد الشعبية للإنضمام إلى التشيع دون خوف الاتهام بالثورة على الحاكم كما كان الأمر في العهود التي سلفت، وبالرغم من أن ثورات الحسنيين وأتباع زيد أو المحسوبين على زيد قد تتالت في أوائل عهد بني العباس إلا أنه يمكن الملاحظة بأن فصل المسارين نجح كثيراً في تأمين القواعد الشعبية.

وكل ذلك كان يجري في داخل قواعد لم تأخذ من التشيع إلا مظاهره الرئيسية ولم تتوغل في أعماقه، ولكن عملية الفصل هذه بدأت تسهم بترعرع المدرسة الفكرية والعلمائية للشيعة بمعزل عن تأثيرات السياسة، ورغم غرق العراق في أجواء أخلاقيات الثروة والتزلف للسلطان وما رافق ذلك من فترة فساد أخلاقي ومجون يندر ملاحظته في أماكن أخرى في تلك الأزمنة، ولعل قصص المجون والدعارة والعهر في قصور سلاطين بني العباس ما يخجل كثيراً مجون الأمويين أنفسهم، ولكن هذا الغرق الأخلاقي في الوقت الذي جعل الشيعة يفرزون أنفسهم عن المجتمع غير الموالي لأئمة الهدى صلوات الله عليهم، جعل السلطة العباسية في نفس الوقت تقلّص الحساسية الأمنية من الحركة الفكرية للتشيع، خاصة وأن السلطة ترامت أطرافها وتكاثرت مشاغلها وتعدد أعداؤها.

ويمكن القول بأن المزيد من مظاهر التغيير الديموغرافي للحواضر الاجتماعية في العراق قد بدأت تطفح على السطح نتيجة لجملة كبيرة من الدعوات التي أطلقها أئمة الهدى عليهم السلام في أزمان الصادقين والإمام الكاظم والرضا عليهم السلام، وكان التركيز كبيراً على مناطق الفرات الأوسط، وهذه الدعوات ابتدأت بسيطة جداً، ولكننا حينما نقرأها اليوم بعين الباحث الاجتماعي في مناهج التغيير نجد أن التخطيط الإمامي كان عالي المضامين غائر الأهداف بعيد المرامي، فلو لاحظنا الروايات التي أطلقت على سبيل المثال في شأن زيارة الإمام الحسين عليه السلام وفضل ماء الفرات وفضل الدفن في الغري وما إلى ذلك سنجد نصوصاً وكأنها بسيطة جداً، ولكنها حينما ترقب من منظار سياسة الاستيطان ومناهج التغيير الديموغرافي سنجد انها أطلقت حزمة كبيرة باتجاه تشييع هذه المناطق لتكون من بعد ذلك البؤرة والمركز لعموم التشيع، وللتوضيح يمكن ملاحظة أثر أحاديث زيارة الإمام الحسين عليه السلام لو أسقطناها على الواقع الاجتماعي وراقبنا ما تفعله هذه الزيارة في هذا الواقع، صحيح أن الزيارة يطلب فيها الزائر الأجر الأخروي ولكن الصحيح الآخر أنه حينما يطلب الأجر الخروي فإنه يتحرك في الواقع الاجتماعي ويؤسس في هذه الزيارة لثقافة اجتماعية تتعلق بهذه الزيارة وما يحفّ بها، فجزئية فضل السير ماشياً أو راكباً إلى الإمام الحسين صلوات الله عليه، وفضل الإنفاق على الزائر وفضل المكوث عند الحسين عليه السلام وفضل ضرب الأخبية عند الفرات وفضل شرب مائه وما إلى ذلك كلها تحكي عن سياسات للإستيطان في الواقع المكاني والاجتماعي في آن واحد ولكنها وضعت في ثنايا الحديث عن الثواب والجزاء الأخروي، ولو أننا نلاحظ اليوم زيارة الأربعين بمليونياتها الفريدة كمثال، فإننا يجب أن لانغفل أنها ابتدأت من حديث: "من زار قبر جدي الحسين عليه السلام ماشياً" وهذا الحديث ظل في بدايته محصوراً بآحاد الزائرين، ولكن مع الأيام تحولت الآحاد إلى العشرات، ومنها إلى المئات والألوف، حتى وصل الأمر إلى الصورة التي نراها اليوم بملايينها المتنامية، بالرغم من كل العوامل المعيقة الأمنية أو السياسية أو الجوية.

إن كل ذلك يجب أن يقودنا إلى معرفة الكيفية التي نما بها التشيع واستوطن في العراق، وبالتالي فإن القول بأن العراق كان شيعياً منذ البداية وكل ما كان في الماضي علينا أن نحكّمه في حاضرنا ونحكم به على مستقبلنا وهم كبير جداً، فالكثير من العشائر الشيعية المعاصرة تعتبر حديثة العهد بالتشيع نسبياً، وبعضها لا يمتد عمر تشيعه إلى القرن الواحد حتى، أما الحواضر العراقية فلوقت طويل جداً كانت بغداد والكوفة والبصرة وهي الحواضر الاجتماعية الأكبر حواضر معادية في أعمها الأغلب، بل وحتى التشيع الذي كان فيها ظل ولردح طويل من الزمن تحت سيطرة الزيدية والإسماعيلية، فيما كانت الإمامية ولمدة غير قليلة هي الأقل بين الفرقاء المذهبيين، ولكن الشيعة الإمامية زاد الله شرفهم تفننوا دوماً في تحويل الآلام إلى وقائع آمال، فحينما تعرض وجودهم الديني في بغداد إلى الخطر نتيجة نواصب السلاجقة والأيوبيين كان ذلك مدعاة لتحوّلهم إلى حواضر جديدة سرعان ما هيمنوا عليها ولعل قصة النجف الأشرف التي كانت حاضرة صغيرة وتحولها إلى مركز التشيع في زمن الشيخ الطوسي رضوان الله عليه الذي لجأ إليها بعد الهجمة البربرية التي تعرض لها مع الشيعة في بغداد ما يظهر لنا نموذجاً مهماً من نماذج حركة الاستيطان والتطوير الديموغرافي الذي سلكه الشيعة.

والأئمة صلوات الله عليهم لديهم كلمات مادحة في المستوطنين في العراق من الشيعة تعزز ما أشرت إليه في البداية بأن الكلمات القادحة كانت في غير المنتسبين لمذهب الطائفة المحقة أو المتهاونين في شأنها، ولعلك لو أمعنت النظر في السبب الذي جعل العراق موئلاً لأضرحة الستة المطهرين عليهم السلام، ولماذا جعل الإمام المنتظر عجّل الله فرجه من العراق عاصمة له ما يحلّ لك الإشكال الذي أثرته في البداية، فهذه الأمور لا تحصل اعتباطاً وإنما حتماً ترتبط تارة بدواعي التأسيس الديموغرافي، واخرى بطبيعة الاستفادة من القاعدة الشعبية المؤسسة، ولا يمكن لنا ان نحكم على القاعدة العامة من خلال النظر إلى شواذ ما فيها، كما لا يمكننا الادعاء بأن الشواذ الذي فيها سيستمر في حال الإحساس بإشراقة الوعد الإلهي وقربها، فهذه الأمور ترتبط بدفق عظيم من الزخم الذي يحوّل الأحوال ويقلب المعادلات.

إني على أشد الإطمئنان بأن مهمة العبد الصالح اليماني لا يحمل عبئها عدّة وعدداً وصبراً وتجلدا إلا هذا الشعب الكريم، ولست هنا أتحدث لدواع وطنية، فالحديث أبعد ما يكون من هذه الدواعي الزائفة في واقعها، بل أتحدث من خلال المنطق التاريخي واستحقاقات المهمات الجسيمة القادمة تناسباً مع الوقائع الديموغرافية والجيوبوليتية للشعوب والخصائص الاجتماعية..

التعليقات
الحقول المعلمة بلون الخلفية هذه ضرورية
عدنان الموسوى
الكويت
2014-1-29
احسنت شيخنا الجليل على هذا الايضاح العميق ، و أثابكم الله سبحانه على هذا الجهد فى سبيل نصرة الحق الحقيق.
مواضيع مختارة
twitter
الأكثر قراءة
آخر الاضافات
آخر التعليقات
facebook
زوار الموقع
15 زائر متواجد حاليا
اكثر عدد في نفس اللحظة : 123 في : 14-5-2013 في تمام الساعة : 22:42
عدد زوار الموقع لهذا اليوم :7200
عدد زوار الموقع الكلي: 27047683
كلمات مضيئة
اللهم صل على محمد وال محمد