سألته: هل كتبت الشعر؟ فنفى سماحة الشيخ الصغير كتابته له، ولكن قال: قد أنظم بيتاً أو بيتين، ولكني لم أهتم بأن أمتلكه، بالرغم من أن عائلتي هي من العوائل التي ذاع صيتها في عالم الأدب والشعر فالوالد والأعمام والأجداد (رضوان الله عليهم) فضلاً عن أخي الأكبر سماحة الدكتور الشيخ محمد حسين الصغير حفظه الله كلهم ينتمون إلى هذا العالم وهم اسماء كبيرة فيه، بالرغم من شأن العديد منهم في عالم الفقه، ولكن عالمهم كان يختلف عن عوالمنا، بالرغم من أني أحسّ بأن احاسيسهم تجاه القضايا العامة للمجتمع هي هي، ولكن أيامهم كان الشعر هو المعبّر عن قضايا الامة ووسيلة التواصل ما بين أبنائها، غير أني وجدت في عالم يختلف عن عالمهم إلى حد ما أو دعني اقول أن اهتماماتي كانت مختلفة عن اهتمامات الأسرة، فلقد تفتحت عيني على المجتمع بشكل مبكر من عمري، ولم أر في هذا المجتمع غير المعاناة، فمن جهة هناك اضطهاد فكري كبير يجري للدين من قبل القوى العلمانية اليسارية واليمينية على حد سواء، ومن جهة كان هناك الفقر والظلم الذي يسيطر على المجتمع، وما بينهما كان الاستعمار قد تربّع على كل شيء في أمتنا، ولذلك نشأ لدي حسّ مبكّر بمظلومية الدين والشعوب التي تنتمي له، فما وجدت قدرتي على الإستجابة لاستحقاقات هذه المظلومية متمثلة في الشعر والأدب بالرغم من أني التهمت المئات من كتب الادب والشعر في باكورة حياتي، ولكن همّي في هذه الكتب هو الاستماع لأساليب التخاطب بين الكاتب والقارئ، ولذلك قرأت غالبية ما وقع بيدي من كتب العقاد ولطه حسين وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ وجودة السحار وإحسان عبد القدوس والمنفلوطي وأحمد شوقي فضلاً عن شعراء المعلقات وشعراء العهد العباسي على وجه الخصوص، فضلاً عن الأدب المترجم، وأشعر أني مدين لهؤلاء جميعاً في طريقتي في التعبير عن ، وهي طريقة قد ينتقدني الكثيرين بأني حينما أتكلم في أو الخطب استخدم مفردات ما عاد الشارع يستخدمها أو لا يفهمها إلا بالرجوع إلى قواميس اللغة أحيانا، الدين لا يعني اني قلدت هؤلاء في أفكارهم، بل إني كنت أقرأ بطريقة أستطيع أن أقول أني لنفسي وهي أني منذ البداية لم أقرأ لكي أقلد المؤلفين، بل كنت أنتقد ولو بسذاجة مفرطة في بعض الأحيان، وكنت أحاكم النصوص التي أمامي فنشأ لدي حس نقدي مبكر جداً، وأحمد الله تعالى على هذه النعمة التي مكنتني في النهاية من أن أخرج من دائرة تقليد الكتاب والمؤلفين فيما كتبوا، ولذلك فإن غالبية ما كتبته يكاد يكون في مواضيع لم يكتب فيها من قبل، او لم يكتب بها بالطريقة التي كتبت بها، ولعل الفضل في ذلك يعود إلى أني كنت لا أقرأ لهؤلاء فقط، بل كنت أقرأ ما هو أكثر في سائر الكتاب التي كانت تطرح الأفكار المتعلقة بالمواقف المضادة للدين أو تلك الكتب التي تنقده وتهاجمه، وكانت الكتب الإسلامية آنذاك قليلة جداً، ولكن غالبيتها كانت ناقدة لأفكار الآخرين الذين كانوا يهاجمون الدين بكل شراسة، وكل ذلك كان يجري في ظروف معركة كانت تجري في ألأرض في جانبيها السياسي والفكري فضلاً عن الاجتماعي، ولهذا كان هذا الحس النقدي هو الذي لي من أن لا أتهيّب كبّار المؤلفين فلقد قرأت أصل الأنواع لداروين وغالبية ما كتبه ماركس ولينين وستالين وديفيد هيوم وهوبز وسارتر وفرويد وأنا في عمر دون العشرين أو في مشارفها، وقد ساعدني على ذلك عملي في أحد مكتبات شارع المتنبي، ولهذه القراءات قصة أخرى، ولكن ما أريد أن أشير إليه أني وجدت نفسي بشكل مبكّر بعيداً عن عالم الشعر، وبالرغم من أن والدي رضوان الله عليه طلب مني أن أقرأ كتاب ميزان الذهب لأحمد الهاشمي وهو مختص بالحديث عن الشعر وكنت آنذاك وأنا في عمر السادسة عشر ولربما دون ذلك، ولكني لم أهتم به وحينما عاد من الكلية (كلية أصول الدين) التي كان يدرّس فيها ليلاً وجدني امسك بكتاب مشاهد القيامة في القرآن لسيد قطب فقدّم لي نصيحة هي الأغلى في تجربي الفكرية رغم أني أخذت بها متاخراً جداً عن وقتها، وقال لي إن كنت تريد أن تدافع عن المذهب والدين فهذه الكتب لا تفيدك، وعليك بكتاب الكافي فهو الذي سيجعلك تكتب أحسن منهم، وكنت في وعي ساذج أي قيمة عظمى في هذه النصيحة، ولكن حينما بدأت بالعمل بها وجدت أني فرطت بالكثير من عمري حين كنت بعيداً عن حديث اهل البيت عليهم السلام، بالرغم من أني آنذاك لو كنت قد انهمكت بالكافي ربما لا أكون قد فهمت منه الشيء الكثير، ولا يمكن لي وأنا قد شارفت على منتصف عقدي الخامس إلا أن أذكر كتباً مركزية ساهمت بشكل جدي في رسم في عالم الفكر، ليس لأنها متميزة جداً، ولكن استطاعت في وقت قرائتها أن وعيي من مرحلة إلى أكثر تقدماً، إذ لا انسى لكتاب المراجعات للعلامة شرف الدين دوره في تنبيهي التضليل في الصراعات المذهبية، ولكتاب الغدير للعلامة الأميني دوره في تبيان حجم الظلم الذي حاق بأمير المؤمنين عليه السلام، ولكتاب شبهات حول الإسلام للأستاذ محمد قطب دوره في التنبيه على الشبهات المطروحة ضد الإسلام، ولكتاب قصة الفلسفة لول ديورانت الذي اتاح لي المجال في أن أبكّر في الإطلاع على الأفكار الفلسفية، ولكتاب ثورة الحسين عليه السلام للعلامة شمس الدين الذي أعطاني منهج التحليل للأحداث التاريخية، ولاقتصادنا للشهيد الصدر رضوان الله عليه الذي فتح عيني على طرق النقد وعلى بدراسة الاقتصاد وهذه الكتب ما خلا الأخير كنت قد قرأتها في سن الصبا وبداية المراهقة، ولكن في نوات السبعينات كان الشهيد الصدر قد فتح عيني على ما أشرت إليه، وقد لعب كتاب تاريخ الفكر الاجتماعي لأرنست باركر لاحقاً دوراً جوهرياً في الانفتاح على علم الاجتماع، سرعان ما بات واضحاً لي ان هذا العلم هو مفتاح الحل للكثير من التي كنت أخوضها، ومن يقرأ لي يعرف أنني لم أتخل دوماً عن طرق التحليل الاجتماعي، وها أنت ترى أن الكتاب الشعري في فترة النضوج الفكري ما كان يحتل ذلك الموقع المتميز لأنه لم يدخل في المعارك التي كنت أخوضها، بالرغم من أن أشعار دعبل الخزاعي في العصر العباسي وقصيدة هاشم الرفاعي في سجون جمال عبد الناصر: أبتاه ماذا قد يخطّ بناني .. والسيف والجلاد ، وكذا أشعار أخي الأكبر حفظه الله السياسية لا سيما قصيدته في مهرجان المبعث النبوي عام 1967 التي ألقاها في جامع براثا ونقلت مباشرة عبر التلفزيون العراقي، ثم قصائد السيد أحمد مطر التي كنت أتابعها في مجلة صوت الخليج الكويتية أولاً بأول وأمثالها قد سيطرت على حياتي بشكل كبير، ومن يعرف هذه القصائد يعرف أنها كانت موضوع معاركنا التي كنا نعيشها يومذاك.
فسألته: ولكن أما كان لك تجربة أدبية أصلاً؟ فقال: لا أستطيع أن أنفي أو أثبت في هذا المجال، فلقد كتبت في عام 1976 بعضاً من قصة لم أقدمها لحد الان إلى النشر: عندما كنت في الزنزانة، وكان ذلك بعد خروجي من السجن، ولكتابتها قصة طريفة هي اننا منذ عام 1973 كنا نهيئ أنفسنا البعث، ولهذا نتلقف أي كتابة عن التعذيب لكي نتعرف على ما يمكن أن يجري لنا وكانت هذه الكتابات أندر من الكبريت الأحمر، إلى أن سقط بيدي كتاب البوابة السوداء لأحمد رائف الذي كان يتحدث عن سجون عبد الناصر وطبيعة الذي كان يجري في ليمان طره من تعذيب ثم كتاب كتبه أحمد عبد الرحمن عن السجون الإسرائيلية واعتبرتهما ثروة ولكن حساب حقل هذه الكتب كان يختلف عن سجوننا، فلقد كان الحديث في هذه الكتب رحلة نزهة أمام ما تعرضنا له من تعذيب يومذاك فخرجت أجمع ما بين الثورة على ما قرأت والرغبة في كشف المستور الذي يجري في العراق، وقد أضفت لها الكثير بعد التجربتين اللاحقتين للسجن، ولكني لحد الآن لم أجد المجال لمراجعتها بالرغم أن ما فيها يمثل تدوينا أدبياً لتأريخ تلك الفترة، وقد على سياق قصص المرحوم نجيب التي كانت قد فينا حماساً عزيزاً لديننا وقضايانا التي كنا نحياها يومذاك.
أما الشعر فأذكر أني قد كنت قد شاركت في احتفال إحياء ذكرى الإمام العسكري عليه السلام في الكاظمية المقدسة في عام 1975 جرت في جامع مؤمن علي وأتذكر في وقتها ألقيت قصيدة لا أحفظ منها شيء غير مطلعها: أنعم بذكرى حلّت على الإسلام.. بولادة الحسن الزكي السامي.. وبطبيعة الحال فقد كتبتها السجية، بلا ضبط ولا رعاية للموازين وبلا رجوع لأحد من أصحاب الاختصاص، ولكنها جاءت عقائدية وأتذكر أني ذكرت فيها هيغل ودارون وكنت أرى همس الأصحاب بخطورة هذه ، وهو أمر وجدت أن تقارير وكلاء الأمن قد أثبتته حينما اعتقلت بعدها بسحوالي سنة أو دون ذلك.
وما عدت شيء من ذلك، نعم لدي مقطوعات هي إلى النثر أقرب منها إلى الشعر، كتبت احدها عام 1985 ومطلعها: ما عادت الأحرف تكفي.. قد أطلنا في الكلام، وقد بثثت فيها الكثير من آلام المعارضة والحنين والشوق إلى بغداد ولذلك بكيت فيها أكثر من مرة، وثمة مقطوعة أخرى نثرتها في ليلة مقتل أمير المؤمنين عليه السلام أسميتها: تأملات في ليلة عشق! كتبتها ودموعي تجري، وهي ذات اطار فلسفي يبحث عن سر الخلود ولكن ثمة حوار يجري في داخلها بين القائل في يوم وفاته: يا ليتني كنت بعرة! وبين أمير المؤمنين عليه السلام الذي كان يقول: فزت ورب الكعبة لمثل هذا فليعمل العاملون، كان منها:
من خريف لربيع...
من شماس لوديع
من بياض لسواد ...
من زفاف لحداد
هو ذا ماضي الحياة...
هو ذا باقي الحياة
هل تراها من حياة؟
أم تراها سبلاً تحدو إلى لقيا الممات؟!!
وقد ألحّ عليّ احد الأعزة أن ينشرها فرفضت إلّا أني طلبت منه أن ينشرها باسمه، وقد فعل مع أنه أبلغ أصدقائه بأنها لي، ولربما تنشر كاملة بعد ذلك مع بقية المقطوعات.
قلت له: ولكني مستمع إليك في خطبك وأرى في كلماتك الكثير من اللحن الموسيقي الذي يؤهلك لكتابة الشعر؟
فقال: ربما حينما أكون منفعلاً بأحاسيسي ومشاعري تتدفق كلمات لها هذا النمط، ولكني لست مهتماً بالكتابة فيه لأني اعتقد أن الشعر إن لم يعبّر عن مكنون القلوب والأحاسيس والأفكار يغدو سلعة تجارية أو يخرج من الحالة الموسيقية التي تجعل القلوب تشهق له، أنا أحب الشعر كثيراً، لا سيما الوصفي منه، وقد يستهويني الشعر الفارسي أيضاً، لأن اللغة الفارسية تتميز عن العربية في نظري بأنها لغة أسهل في وصف عمق الأشياء ومكنوناتها مما لدينا، فقد يختصر بيت الشعر الواحد في التعبير عن الجمال ما يمكن للشاعر العربي أن يضعه في قصيدة كاملة، ولربما يعود الأمر لجمال الطبيعة وسلاستها في بلادهم قياساً إلى قسوة الطبيعة التي لدينا، ولكني أبقي الشعر بعيداً عن مضمار لا أجد فيه معركة أخوضها، ولعل ذلك يعود لعدم توفيقي في هذا المجال، ولكن على أي حال لا أجد معركتي فيه، فمضماره له رجاله وفرسانه الأجلّاء، ولديّ قلمي الذي يخوض في ميدان بعيد تماماً عن هؤلاء.
أنهيت حديثي مع سماحة الشيخ بالقول: وأين المقطوعات النثرية التي أشرت إليها؟ فقام من مجلسه وهو يبتسم ويقول: لقد تشاطرت عليّ اليوم كثيراً، فدع ذلك لجولة أخرى ربما أكون أكثر شجاعة في إخراجها.