في صبيحة يوم 26/4/1976 كان موعدي مع أول اعتقال لي من قبل جلاوزة النظام البعثي المقبور، كان عمري يومها لم يبلغ التاسعة عشر بعد، ولعلي كنت في الصف الخامس الإعدادي المسائي إذ كنت يومها أعمل في النهار في أحد محلات سوق تجار بغداد، وأكمل دراستي ليلاً في ثانوية الشعب في الكاظمية، ولم اكن قد تفرغت للدراسة في الحوزة بعد، ففي صباح ذلك اليوم كنت في السيارة في الطريق إلى محل عملي حينما رأيت سيارة بيجو 404 بيضاء اللون وهذا النوع من السيارات كان خاصاً في وقتها باجهزة الأمن متوقفة إلى جنب جامع براثا، فتوجست خيفة، لأني كنت اعرف أن اسمي قد ورد في قائمة اعتقالات في عام 75 شملت سماحة الشيخ همام باقر حمودي والشهداء السيد طارق زلزلة وسمير علي جواد والمرحوم الحاج مؤيد البياتي واخرين، ولكن مرض ووفاة المرحوم الوالد قدس سره في وقتها أجّلت عملية اعتقالي فيما اعتقل الاخرون بالرغم من عدم وجود رابطة تنظيمية معهم، فلقد كانوا في تنظيم العقائديين وكان لي شأن آخر رغم التقارب معهم، وقد بلغني أنهم كانوا يتعرضون إلى ما كنا نألفه من تعذيب في سجون الرفاق، وبالفعل بمجرد أن وصلت إلى محل عملي لم تمض دقائق حتى جاءني من يخبرني بموعد الخمسة دقائق المعروف، والذي بموجبه يتم تمديد هذه الخمسة دقائق إلى ما لا يعلمه إلا الله، نعم كان جلواز الأمن يبلغني بحاجتهم كي أراجع الدائرة لمدة خمسة دقائق، وهذه الدقائق الخمسة استمرت بعد ذلك إلى 76 يوم كان منها 52 يوم قضيتها في حفلات التعذيب الخاصة في الشعبة الخامسة والشعبة الثانية في مديرية امن بغداد.
بطبيعة الحال كنا في تلك الفترة نحاول أن نستقي أي معلومة عن طرق التعذيب وفنونه وكيفية التخلص منه، ولم تكن الأجواء الثقافية والسياسية يومذاك تسمح بطباعة كتب عن ذلك، ولو طبعت في بيروت فإن وصولها كان يتم بسرية تامة وبعدد محدود جداً في حال حصول مثل ذلك، ولم استطع الحصول يومذاك إلا على كتاب لأحد سجناء الإخوان المسلمين المصريين وهو الأستاذ أحمد رائف وكان تحت عنوان البوابة السوداء وهو يحكي قصص التعذيب في سجون جمال عبد الناصر، وكذلك على كتيب لأحمد عبد الرحمن وهو قيادي فلسطيني يتحدث عن ظروف الاعتقال في السجون الصهيونية، ولعلي في ذلك الوقت قرأت الكتابين عدة مرات لكي أتهيأ على ما كنت اعتقد أنه أمر لا بد منه، وبصراحة أن أول يوم من التعذيب وجدت أن ما حكاه هؤلاء عن التعذيب في مصر وفي السجون الصهيونية كان متواضعاً جدا جداً، ولعل الفارق يعود إلى أن من يكابد الألم غير الذي يقرأ عنه!
على أي حال تم استقبالي في الشعبة الخامسة لمديرية أمن بغداد من قبل طاقم التحقيق المتميز يومها وكان يرأسهم ضابط اسمه بدر الدليمي، وكان المفوض قدوري ورئيس العرفاء فلاح وبعض الأفراد منهم فلاح من منطقة علي الصالح وعبد الأئمة من مدينة الثورة والتي تم تسميتها بعد الإطاحة بالنظام بمدينة الصدر وشخص آخر اسمه صادق كان يمارس دور المراسلة بين غرف التحقيق وبين الموقف، وكانت الشعبة الخامسة يومذاك في منطقة القصر الأبيض (حي الأندلس) وكانت تمارس عملها ضمن مربع أمني يضمها ومديرية الأمن العامة، وكان سكان المنطقة قد تم إبقاءهم فيها بحيث أن طريقنا بين غرف التحقيق أو التعذيب وبين المعتقل كان يمر عبرهم مشيا على الاقدام وهم يتسوقون ويمارسون حياتهم الطبيعية، اما المعتقل فقد كان خاصاً بمديرية الأمن العامة وسمي لاحقاً بالهليكوبتر لأنه كان عبارة عن هيكل كونكريتي ضخم وفارغ في طوابقه الثلاثة من أي جدر غير الاعمدة، فيما كان المعتقل يقع في الطابق الرابع.
كما هي العادة ابتدأ الاستقبال الخاص لي في الدقائق الأولى لوصولي إلى مكان الشعبة الخامسة والمتشكل من منزل من طابقين حيث كانت غرف التحقيق تمثل ثلاثة غرف واحدة كانت لمسؤول التحقيق، والثانية للتعذيب، والثالثة لإداريات الشعبة، ، بالرغم من احتياجات التعذيب كانت تستوعب بعض الاحيان كل سنتمتر في هذا المنزل، والاستقبال كان عبارة عن تمرينات أولية على التعذيب، وقبل أن أسرد ما جرى أتوقف عند موقفين طريفين أولهما أن رئيس العرفاء فلاح مع أول ضربة لي صرخ وتبين أن يده فصخت من أثر الضربة وكان يصيح أن هذا سيد يشوّر ديروا بالكم منه!!! وإنصافاً ظل يحاذر من ضربي جهد إمكانه في بواقي الأيام، ولو فعل فيعتذر مني!! واستمر ذلك في بقية الاعتقالات، والموقف الطريف الآخر أن المسمى بعبد الأئمة اقترب مني وسألني هل أني ابن الشيخ؟ ــ وقد سمّى والدي رحمه الله ــ فلما أنعمت له بالجواب سمعته يطلب من قدوري أن يرسله بعمل إلى الخارج لأنه لا يريد أن يتورط معي!! وبالفعل لم أره بعد ذلك إلا قليلاً ولم يشترك بتعذيبي أبداً.
كانت بداية الاحتفال مع الملازم بدر الدليمي وأعتقد أنه في شرطة الكهرباء حالياً أو تقاعد منها وقد استمر في التعذيب لمدة يومين على قضية محددة هي لماذا جئنا بك إلى هنا؟ فاختر لنفسك تهمة!! قد يبدو ذلك مبالغة ولكنها الحقيقة المجردة التامة، فلقد قضيت يومين من التعذيب الشديد وكل تعذيب يبتدأ أولاً يكون شديداً لأن الإنسان في وقتها لم يتعرف على ما سيأتي لاحقاً، وكانت مطالبته لي بالاعتراف مبنية على هذا المقدار، وبتعبيره لما جاؤوا بك فمعناه أن عندك شيئاً تخفيه عن الحزب والثورة فما هو؟! قد يبدو ذلك مضحكاً للبعض، ولكن هذه أيامنا مع حزب البعث ورفاقه!
بدر الدليمي كان يجلس خلف طاولة وضع عليها اسم فيصل هلال، وهو اسم مرعب للمؤمنين آنذاك رغم انه كان رمزياً، وقد حسبته هو، ولكن تبين لي بعد أيام بأن مسؤول التحقيق الأصلي منشغل في دورة تدريبية في مصر واسمه الجلاد نوري الفلوجي، كان التعذيب في وقتها قد ابتدأ باللكمات والركلات ثم تحوّل إلى الهراوات المطاطية (وهي عبارة عن كيبل مطاطي سميك أو ما يسمى في السوق بالهوز) وهو أصناف متعددة وكانوا يرقمونها بالرقم 5 و7 و10، وأكثر ما تعاملنا معه ما كانوا يسمونه برقم 7 وهو كيبل قد تم سحب الأسلاك المعدنية منه وعولج بمواد جعلت أطرافه تلتصق ببعضها وهو بعرض حوالي ثلاثة أصابع، وحقيقة ضربته كاللسعة المؤلمة للغاية، ثم الكيبل 10 وهو كيبل كله من المطاط ليس بالمتيبس بل يتميز بليونته، ولعل قطره يبلغ 2 سم أو أكثر بقليل ولكنه حينما كان يسقط على الجسم يتلوى عليه عكس الأول الذي كان يلتصق به، ثم جاءت الفلقة والتي تمثل خشبة بمقدار 4انج في 4 انج توضع على أعلى كعب القدم وتلصق أثناء شد الحبال على عظمة الساق، وحبالها التي تدلّت منها والتي يتم ربط الرجلين بها كانت من الليف الخشن والذي نسميه بحبل جنّب وبعد أن يلف الحبل على القدم يتم لصق زاويتا الخشبة على عظمة الكعب وعظمة الساق وفي ذلك من الألم المبرح ما لا يعلمه إلا من تجرعه، وكل ذلك يتم من قبل جلاوزة لا يعرفون في قلوبهم أي رحمة، فلو ضربوا فكأنهم يضربون قاتل والدهم، ولو شتموا فكأنهم يشتمون النائل من أعراضهم والسابي لحرمهم، ولو تحاملوا على أحد فكأنهم أمام أعدى أعداءهم.
على أي حال استمر التعذيب على وتيرة عابثة وكان التعذيب كما ذكرت في مقابل أن يطالبوك بأن تختار لهم تهمة يعذبونك عليها، وقد غدا من الواضح لدي أنهم لا يمتلكون أي معلومات عني ولا عن طبيعة العلاقات التي كانت تربطني بالعديد من العاملين الفاعلين للقضية الإسلامية، ويشاء الله أن بدراً حينما تعب من التحقيق في اليوم الثاني تركني في غرفته لدقائق تمكنت فيها أن أقرأ ما يوجد في ملفي، وقد فوجئت أن فيه ورقة واحدة عبارة عن تقرير رفعه أحد أصدقاء الطفولة واسمه أنور (قتل لاحقاً في الحرب المجنونة ضد الجمهورية الإسلامية)، ولكنه تحوّل إلى مخبر بعثي ويتكلم فيه عني وعن حقدي على الحزب والثورة، ولا أدري كيف جال في فكري أن أفكر في أن أريه ماذا تعني كتابة التقارير؟ وحينما عاد بدر الدليمي إلى التعذيب وقد أنهكه التعب طلب من فلاح أن يربطني بالمروحة، وقال لي بعد أن أشار إلى الاعوجاج فيها بأنه علّق عليها الشهيدين السعيدين الشيخ عارف البصري والسيد عماد الدين التبريزي (خال سماحة السيد صدر الدين القبانجي) وإن لم تعترف الآن فإن المروحة حينما تدور ستعترف مجبراً! على أي حال قام فلاح بالمهمة بشكل سريع فلقد أصعدني على طاولة وتم ربط يداي بإحكام بحبل إن لم تخني الذاكرة من القطن السميك كان يتدلى من المروحة، وحينما فعل ذلك دخل صادق وأخبره بأنه مطلوب على التلفون، وفي وقتها كان فلاح يرغّبني بأن أعترف أو أن أقول أي شيء لأن هذا الكلب (والكلام له عن بدر) قاسي جداً، ولكني كنت في عالم آخر فلقد كنت منشغلاً بنخوة الإمام موسى بن جعفر صلوات الله عليه بأن أتخلص من عذاب المروحة وأرتاح لأني كنت منهكاً للغاية بعد تعذيب استمر من الساعة الثامنة والنصف صباحاً وحتى مشارف الثالثة آنذاك، وسرعان ما كان لهذه النخوة أثرها إذ أن بدراً طلبوه في دائرة أخرى، فقال لهم: انزلوه الآن واجلبوه غدا وخرج من الدائرة مستعجلاً!!
جاء الصبح وكالعادة رأيت صادقاً قد جاء في الساعة الثامنة وتم مناداتي إذ لا زبون محسوب على الشعبة الخامسة وقتئذ غيري، فأنا الضيف الوحيد عندهم وهم متفرغون لي، وما أن وصلت سألني بدر الدليمي عمّا إذا كنت أرغب بالاعتراف أم أعود إلى المروحة؟ فقلت له: بل سأعترف، فاندهش وسرعان ما اتصل وقال لمن يتصل به: سيدي قرر أن يعترف، وضجّت الدائرة وهم يسمعون اعترافاتي على أنور (الرجل الذي كتب التقرير الأمني عني) وقد قدمته بعنوانه مسؤولاً عن التنظيم الخاص بي!! فسألني عن عنوانه فقلت له: سأدلّكم عليه، وبالفعل أصعدوني بسيارتهم وذهبنا إلى العطيفية الثانية حيث منزل أنور هذا، وكان يقف على باب بيتهم فأشرت إليهم عليه فناداه أحدهم فجاء وكم بوغت أنور هذا بضربة كف مدوية انطلق معها بعد أن رآني يصيح بأنه رفيق في الحزب! ولكن ذلك لم ينفعه، فلقد ضربوه حتى سكت، وجاؤوا به إلى الشعبة الخامسة التي كنت قد وطنت نفسي في أن أتلقى العذاب المضاعف نتيجة لما قمت به، وبعد أن ضربوه أبلغهم بأنه هو الذي كتب التقرير عني!! وبالفعل راجعوا التقرير وكم كانت دهشة بدر ثم غضبه بعد ذلك!! لكم ان تتصوروا ذلك!
اعتذروا من أنور هذا ولكنهم بدأوا معي حفلة صاخبة من التعذيب بكل ما تمكنوا عليه وكانت شتائمهم وسبابهم تذهل المرء كيف أنهم يحتفظون بكل قواميس السباب والشتائم التي لا تطرأ على بال أحد، وكان عزائي هو أني ضحكت عليهم وأريت هذا الذي جنّد نفسه لهم ماذا يعني أن يكتب تقريراً عن الآخرين؟ والتقرير تناولني وصديقين آخرين من أصدقاء الطفولة (هم حازم ونوري) وقد أخبرني حازم حفظه الله بعد أن رأيته بعد السقوط أنهم استدعوه للتحقيق أيضاً.
للحديث صلة ان شاء الله