الحلقة الثالثة
كان فلاح وقدوري يقفون خلفي فيما كان بدر الدليمي يقف أمامي ولا أدري كيف اشتعلت لحيتي بالنار وتصاعد لهبها مباشرة باتجاه العين ولم يدر في خلدي أبداً أن الألم يبلغ هذا المبلغ لا سيما في المنطقة التحتية من العين اليسرى، ويعلم الله أني مررت بآلام كثيرة قبلها وبعدها ولكن لم يمر في حياتي مثل ذلك الألم، والذي لا زالت أستشعره لحد يومي هذا، وحينما أقول بأني لا أدري كيف أوقدوا النار في لحيتي فلأن بدراً هذا لم أره يحمل أي شيء بيده وكانت يده مشغولة بين الفينة والأخرى بتوجيه كفه إلى وجهي، فلربما كانت يد فلاح أو قدوري هي التي تسللت بدون شعوري لتفعل ذلك، وبطبيعة الحال كان الضرب واللكم قبلها قد نفش لحيتي بطريقة يسهل معها أن تلتهمها النار بطريقة سريعة، وعلى أي حال من قسوة هؤلاء المجرمين أنهم أطفؤوا النار باللكمات والأكف، ولم تفتهم الركلات! مع أنهم كانوا يصيحون بسخرية: أطفئوا النار الولد خطية احترق!
انتهى الفاصل بذهول كبير اجتاحني في حينها، بينما كان بدر الدليمي يتوعدني في الغد بأن يبتدأ مرحلة جديدة من التعذيب، وهكذا حلت ساعة الفرج، وفرجنا الذي كنا نطلبه آنذاك هو أن نعود للمعتقل كي نستعيد التقاط أنفاسنا، فمنذ تلك التأملات التي ذكرتها عن اليوم الثالث امتنعت من الدعاء بأن يفرج عني من السجن، لأني وطّنت نفسي أن بلاءً واختباراً قد وضعت فيه من قبل الله، ولا بد لي من أن أتجاوزه بصبر وثبات، ولهذا كنت في حالات الضنك والشدة أقصى ما أدعوا به أن أرتاح لما تبقى من اليوم.
اقتادني صادق كالعادة إلى المعتقل، وكان المعتقل عبارة عن صالة طويلة مفتوحة غير مقطعة (تم تقطيعها لاحقاً بسبب أمر حصل سأرويه في محله) عدا الزنزانات الانفرادية ولعل عددها ثمانية أربعة ملاصقة للصالة وأربعة أخرى تقع بعد الباب الثاني للمعتقل وتلك كانت مخصصة ظاهراً لموقوفي نفس أفراد الأمن، والصالة فيها خمسة مجاميع من الشبابيك الصغيرة، أربعة أو ثلاثة في كل مجموعة وذلك في أعلى جدرانها من جهة يمين الداخل إليها، وكنت في وقتها النزيل الوحيد لدى الشعبة الخامسة، فيما كانت أعداد المعتقلين يومذاك يصل إلى 240 معتقلاً ولكنه عدد متحرك ففي بعض الأحيان بلغت أعدادنا الأربعمائة، وكان مكاني في بداية الصالة قريبا من الحمامات وقد أخذت نفس المكان الذي كان فيه المرحوم السيد محمد نجل آية الله السيد علي نقي الحيدري (رحمة الله عليهما) وقد خرج قبل اعتقالي بثلاثة أيام، ومن حسن الحظ أن صديقنا الحاج مرتضى اعتماد صاحب مكتبة الاعتماد في الكاظمية (الآن صاحب دار المفيد في بيروت وطهران) كان سجيناً بانتظار تسفيره إلى إيران، وهو من تلاميذ الوالد قدس سره في كلية أصول الدين، فسهّل عليّ أموراً كثيرة في وقتها مما يتعلق بنظام المعتقل وطبيعة المتواجدين فيه، أما النزلاء الآخرين ففيهم من السياسيين الشيوعيين وأحدهم كان باسم صميدع من الديوانية والآخر من الكاظمية اسمه سلام، وكذا من البيشمركة الأكراد وأحدهم اسمه دلاور، واثنين من الأخوة من حزب الدعوة قد تم جلبهم من معتقل الفضيلية ضمن ما كان يعرف بقضية الديوانية، وهم الأستاذ عمران كريم (إن لم تخني الذاكرة) ولا زال حياً يرزق ــ أطال الله في عمره ــ في الديوانية على ما أعهد، والسيد نشيد (حفظه الله تعالى)، وقد أفادني وجودهما كثيراً نتيجة لتجربتهما مع التحقيق، هذا بالإضافة إلى أعداد أخرى معتقلة بتهم مختلفة، وفي هذا الجمع يمكن لك أن تقرأ كل الواقع العراقي ومآسيه ومظالمه، وحقيقة كان المعتقل فرصة للتعريف بما يجري في العراق، وسأتناول مع الوقت جانباً من الحالات التي عايشتها واطلعت عليها هناك.
كان دلاور (ويعني باللغة الكردية البطل او الشجاع) وهو من شرطة أربيل قد تطوّع بالاهتمام بأورام وأوجاع التعذيب، وكان ماهراً للغاية في إزالتها، وقد أضاف كرماً آخر منه، وذلك أن إفطار المعتقل يتمثل بطبق من الشوربا في يوم، وبقطعة من الزبد المملح وقطعة من الجبن المثلث في اليوم الآخر، فكان يجمع الزبد الخاص به ويدخره لي بمعية الذي لي، حتى إذا ما عدت من التعذيب كان يتولاني بالتدليك بهذا الزبد ويعمل على إزالة الاحتقانات بطريقة متقنة، والرجل له منّة كبيرة في عنقي أسأل الله أن تنفعه يوم القيامة، ومع أنه كان محكوماً بالإعدام في وقتها غير أن روحيته كانت عالية ولا يعاني من قلق في هذا الشأن، ولذلك ما أن دخلت الصالة حتى أيقظوه من المنام، وفعلاً كان يجلس نشيطاً وبهمة عالية يمارس عمله.
والقصص في السجون في الكثير من الأحيان مفجعة بطريقة لا تقبل الوصف، وإن كنت أنسى فلا أنسى رجلاً كان منامه في الجهة المقابلة لي، من منطقة قريبة من المسيب لعل اسمه كان جاسماً وإن لم تخني الذاكرة فقد كان البعض ربما ناداه بكنية أبي عباس، أو العكس، هذا الرجل كان أميناً لمستودع الأسلحة الخفيفة في منشأة الإسكندرية، وقد اعتقل في قضية اختفاء عدد من المسدسات (ربما كان عددها 69 أو 86 والترديد مني)، وقد مورس معه التعذيب بطريقة رهيبة جداً بحيث أن يداه قد فقدتا استقامتهما فكانت أكفّه منحنية باتجاه ساعده، ولا أثر فيهما على ما يبدو لعصب وما شاكل، فضلاً عن خلع الكتف الذي يحصل في الدقائق الأولى من جراء التعليق، وجيء بأولاده وزوجته وأفراد من عائلته بلغ عددهم على ما أتذكر أحد عشر شخصاً أو اثنى عشر، وتم التعذيب مع الجميع بطريقة لا يمكن وصف هولها وكانت زوجته وأولاده يعذبون أمامه وهو يعذب أمامهم، وقد خرجت من المعتقل وظل هو، ولكن حينما عدت إليه في اعتقال عام 1978 كان قد ترك قصته تتداولها الألسن بأسى بالغ، فبعد الأهوال الشديدة التي تعرض لها الرجل وعائلته على مدى ستة أشهر او اكثر وأشك أنهم بقوا بعد ذلك، تبين أن المسدسات قد تصرف بها أحد أعضاء قيادة فرع بابل، وأخذها من دون أن يبلغ هذا المظلوم ومن دون أن يسجل في المستندات أنه أخذها، فاكتفى القوم أن يقولوا له: اعذرنا فلقد عثرنا عليها!! فاستضافوه وقدّموا له ولعائلته اللبن!! وهذا اللبن يعرفه السياسيون والسجناء معرفتهم لأحد أبشع السموم التي مرت بالتاريخ السياسي في العراق على يد البعثيين، فالله وحده يعلم كم حوى هذا اللبن ونظيره فنجان القهوة من سم الثاليوم (سم الفئران) وقاد شاربوهما إلى الألم والموت، وكم شهدت مقابر العراق من ضحاياهما!!
على أي حال استمر الجلاوزة على منوالهم اليومي في التعذيب وبحمد الله كان ثباتي يتعزز أكثر فأكثر، وبالرغم من أن اتفاقاً بيني وبين أخوتي في التنظيم الذي كان يجمعنا أن أحدنا لو سجن وتم الضغط عليه بحيث يمكن أن يعترف، فعليه أن يصبر لما لا يقل عن ثلاثة أيام ليتمكن البقية من تأمين أنفسهم، ولكن نزعة من التعالي والإباء كانت تسيطر على نفسي بحيث كنت أرى أن أعطاء هؤلاء الأنذال شيئاً ينتفعون به يمثل عاراً وخيانة لا تليق بي، وقد تفاعل الشعور الديني والموقف العشائري والمناطقي معاً في إثراء هذا الشعور وتغذيته، ومع الشعور الديني الذي كان يذكّرني ببلال وياسر وسمية ومصعب بن عمير (رضوان الله عليهم) وأمثالهم من الصحابة الأول، فيحدو بي كي أصبر وأتماسك، فأنا ابن النجف الأشرف ومتحدّر من أصل جنوبي أفاخر به فيحفزني على أن لا أتنازل لهؤلاء، وقد ازدادت تلك الروح شيئاً فشيئاً بفضل الله مع تصاعد وتيرة التعذيب وزيادة محنته كما سأشير لاحقاً.
بعدها بأيام جاء المراسل صادق على عادته وسرنا كما هي العادة باتجاه الشعبة، وحين وصلنا طلب مني هذا المراسل التمهّل عند الباب إلى جنب الحرس ريثما يأتي بكتاب، ولم يغب إلا لحيظات حتى عاد ومعه ظرف بريدي رسمي، وقال لي تم تحويلك إلى الشعبة الثانية، لم يسبق لي أن سمعت عن هذه الشعبة شيئاً، ولا أعرف عن طبيعة مسؤولياتها واهتماماتها شيئاً، وعاودت عضلات معدتي بالتقلص والإنكماش والتحف قلبي بهبوط من ضغط الدم، فمالذي ينتظرني هناك مما لم أره في الشعبة الخامسة، والأهم من ذلك هل استجد أمر يمكن أن يوسّع أطراف القضية؟ أو هل لديهم جديداً في المعطيات التي بين أيديهم ضدي؟ وبصورة سريعة اعتملت في داخلي موجة عارمة من القلق وهيمنت الهواجس والظنون بحيث أطبقت عليّ بشكل شديد، ولا أدري كيف أن قول أمير المؤمنين عليه السلام: آه من قلة الزاد وبعد السفر ووحشة الطريق قد طرأ على بالي وقتئذ؟ ومع أن لا علاقة له بشكل مباشر بما أنا فيه، ولكن نفس ذكر الأمير عليه السلام كان يعني زخماً أعلى.. ولم يمض على دخولي إلى الشعبة الثانية إلا دقائق حتى أحسست أن الجو هنا ليس كما الجو في الشعبة الخامسة، وكم كان الأمر ساخراً ومؤلماً في نفس الوقت: إني بدأت أتمنى أن أرجع لعصابة بدر الدليمي ولا أبقى هنا، وما يرضيك بالمرّ إلا ما هو أمرّ.