قال أحد الجلاوزة بلهجة ساخرة لمصعب: سيدي هذا ينادي الله، فقال له: إذن نادوا على الله ليأتي، ولكن أغلقوا عينه لأنه لا يصح أن يرى الله! ــ والإغلاق يكون عادة في مثل هذه الموارد بوضع عصابة على العينين ــ وبالفعل شدّوا بالعصابة على عيني، وما هي إلا لحظات حتى جاء أحد المجرمين وهو يفتعل لهجة غاضبة، وكان لسانه هو قطعة لا تنسلخ عن أقذر الألسنة في السباب والشتائم والبذاء والقبائح، وقال لي: ماذا تريد مني؟! ولم ينتظر جواباً مني بل راح يضرب بخشبة كانت في يده بطريقة لا توصف بالقاسية، فكلمة القاسية ناعمة جداً لما رأيته خلال نصف ساعة من هذا الرجل الذي يدعي كفراً بأنه الله جل وعلا، وضرباته لم تكن تحدد موقعاً، فكلما وجدت خشبته موضعاً في جسمي كانت تهوي عليه، وبالرغم من أنه استراح قليلاً غير أن رفاقه أكملوا مهمته، ولم يكونوا قاصرين عن ذلك، بل راحوا بإتقان يعاودون الضرب بلا هوادة، قبل أن يعاود هو الضرب بنفس الوتيرة السابقة، وكان كل ذلك يجري وألسنتهم القذرة كانت تقيء بكل ما يمكن للبذاءة أن تنتج من ألفاظ، وهي مشفوعة بالسخرية التي كانت تزداد كلما توجّعت لضرباتهم!
ومع الأيام والتجربة أصبح من المؤكد لي أن هذا الأسلوب يستخدمونه كغرض من أغراض الحرب النفسية بهدف قطع الطريق على ضحيتهم من أن يستمد أي قوة معنوية وإبقائه محاصراً ضمن أجواء الخوف والرعب والألم والأذى والقلق ليشعر ألّا خلاص له من أياديهم، وتصوير مفاتيح الرحمة وكأنه بأيديهم فقط دون أي معين له، كي لا يجد خلاصاً إلا من خلال الخضوع لهم إما بالاعتراف أو بالتعاون معهم في المرحلة اللاحقة.
كان الألم ينطلق من كل أنحاء جسمي والنزف أخذ يشخب من عدة مناطق في قدمي ووجهي ويدي، ولكني كنت أحس بحال أفضل من دون عملية التعليق سواء بالفلقة أو بالباب أو بالمروحة، وبالكاد مرّ الوقت الثقيل جداً كي أتخلص من هذا الجلواز، ولكن ذهابه بعد ما يقرب النصف ساعة لا يعني انتهاء التعذيب، لأنه ما أن ذهب حتى جاء صوت مصعب التكريتي: ها يول! هكذا أحسن لك أم تعترف لي وحينها لن يقول لك احد ان على عينك حاجب؟! وراح يسأل أسئلة كلها لأمور لا علاقة لها بي ولا بطبيعة ما كنا نعمل في تلك الفترة، ومع كثرة الإتهامات إلا أني كنت أعرف تماماً أن ما لديهم عني من معلومات يكاد يبلغ النزر القليل جداً، وحتى هذا النزر لا يمثل معلومة ذات بال، وهذا بطبيعته يترك راحة نفسية من جهة، وفي نفس الوقت يضعك لتتأهب لمزيد من التعذيب، فهم في مثل هذه الحالات يتوخون تارة وضع الفريسة فيما يعرفونه بخطة المكنسة، فالكناس يكنس ورغم أنه قد لا يجد شيئاً مهماً في مرة، ولكنه قد يعثر على صيد ثمين في أخرى، ومع أنهم كانوا يعدّوني صيداً ثميناً، ولكن كلما فشلوا في جرّ الضحية للتحدّث بما يرضيهم كلما ازداد حنقهم وغضبهم عليه، فينفّسون عن ذلك من خلال التعذيب وتشديد وتيرته، فهم بحاجة لشيء يضعونه في الملف التحقيقي طمعاً بكتب الترقية والشكر والتنويه، أو يتخلصون من عتاب ضباطهم الأعلى منهم، والذين هم بدورهم ينتظرون أيضاً أي نجاح لكي يعود عليهم بالمكافأة، وفي كل الأحوال كان كل ذلك ينتج المزيد من التعذيب، ومع أن مصعب التكريتي قد أضاف لما سبق أن ذكره من أسماء، أسماء أخرى كالمرحوم الدكتور داود العطار رضوان الله عليه أستاذ علوم القرآن في كلية أصول الدين في وقتها ومن قيادات حزب الدعوة المتقدمين، وكان صديقاً للمرحوم الشيخ الوالد قدس سره ومزاملاً له في الكلية إذ كان الوالد يدرس مادة الفقه المقارن فيها، وكذلك المرحوم الشهيد جواد الزبيدي (أبو ميثم) رحمه الله وهو من طلاب الكلية وأحد ناشطي حزب الدعوة، وكان يكثر من التردد على جامع براثا في حينها، والشهيد سلمان التميمي والشهيد الحاج عبد الحسين جيته وكليهما اعدما في ساحة التحرير عام ١٩٦٩، ضمن اطار ما سمي بانقلاب عبد الغني الراوي والذي كشفته اجهزة السافاك الايرانية وأفشت به لنظام العفالقة نتيجة لخطأ ارتكبه الراوي،اذ انه صدق بالاعلام البعثي الذي كان يتحدث عن موقف مضاد لشاه ايران، فذهب الى ايران يومها وتحدث عن الاستعداد للقيام بالانقلاب فما كان من السافاك الايراني الا ان سلم المعلومات الى المجرم صدام وكان ان تم اعدام كل الشبكة في بغداد والبصرة باضافة اخرين لا علاقة لهم بالموضوع، ولعل الشهيد سلمان التميمي رحمه الله احد هؤلاء وكان محاسبا في المدارس الجعفرية، والشهيد ابراهيم السامرائي وهو والد الدكتور أياد السامرائي على ما اعتقد، ومهما كان فإن مصعباً كان يصوّب بعيداً جداً عن الهدف، وكنت أتعجب في داخلي، فمن الأسماء التي أعرفها لم يذكر أي أحد من المقاربين لعمري، بل كل من ذكروا هم من جيل أكبر مني، ولكن المشكلة أن هذا ينتج جواباً واحداً دائماً هو أني لا أدري!، وهو جواب يعني المزيد من التعذيب! ومع ذلك كانت إجاباتي تعتمد على المحاور التالية: فإما أن أجيب بما هو واضح معلن مع إحاطة الجواب بهالة من الاهتمام، فحينما سألت مثلاً عن الشهيد أبي ميثم الزبيدي رحمه الله قلت لهم: بصراحة كان يكتب عن العمل الفدائي في فلسطين، وكان يأتي بأوراق يريها للشيخ الوالد، فسألوني: ما هي هذه الأوراق؟ فقلت لهم: عن العمل الفلسطيني ونظرة النجف إليه، علماً أن الشهيد جواد الزبيدي سبق له أن نشر كتاباً عن ذلك بموافقة من الحكومة، ولكني اعتمدت على أمية المحققين وجهلهم في طبيعة المعلومة التي أقدّمها لهم، والمحور الثاني هو إبداء البساطة والسذاجة في فهم الأمور، وكنت أحاذر تمام الحذر من أن أظهر أي نوع من الذكاء أو الفكر في الإجابة، والمحور الثالث لو أجبرت على أمر كنت أحيله على ميت أو مسفّر من العراق أو إلى شخصية لا يشكون بها!
فمثلاً حينما كانوا يسألون عن الذين يتكلمون ضد الحزب كان الجواب في العادة يتعلق بالمرحوم الشهيد السيد عبد العزيز البدري وهو أحد علماء السنة وقد قتله البعثيون شر قتلة في بداية السبعينات والقوا بجثته المقطعة على باب منزله، نتيجة لعلاقته بمرجعية الإمام الراحل السيد محسن الحكيم قدس سره وكان يتردد على بيتنا كثيراً، ويحتفظ مع الشيخ الوالد بعلاقة متميزة، وكان هو والحجة الشهيد السيد محمد مهدي الحكيم والشيخ الوالد والمرحوم الخطيب السيد محمد هادي الحكيم رحمهم الله والسيد عدنان البكاء اطال الله عمره أعضاء الوفد الذي كلفته مرجعية السيد الحكيم طاب ثراه بالتحدث مع المقبور أحمد حسن البكر في شأن مطالبات المرجعية من قادة الإنقلاب البعثي آنذاك، أو أنهم حينما سألوا عن الأشخاص الذين كانت لهم علاقة خاصة بالشيخ الوالد كنت أركّز على الحاج غيدان والد سعدون غيدان وزير الداخلية وكان جارنا في العطيفية، او الوزيرين السابقين احمد عبد الستار الجواري وصلاح عمر العلي ولعله كان وزيرا للمواصلات يومها وكلهم كانوا من سكنة المنطقة وهكذا.
عادت الفلقة بعد استراحة من التعذيب طالت لعشرة دقائق تقريبا هي التي استوفتها أسئلة التكريتي واجوبتي العظيمة!، وتناوب فريقان عليها بهستريا واضحة، كان صياحي وصراخي من الآلام قد جفف كل شيء في فمي، وكان قد بدأ يجرّح في حنجرتي، وتتقلص به قصبة التنفّس، وكنت كلما طلبت ماءاً كانوا يهرقون الماء على وجهي مشفوعاً بضحكات الاستهزاء ولكمات الوجه، ولكن دون أن تتوقف الكيبل من معاودة الضرب، ومن دون أن يتوقف حبل الفلقة في الإيغال في داخل لحم القدم جارحاً له تارة وناكئاً لجروحه أخرى وآكلاً له ثالثة، ومع كل استراحة لفريق التعذيب كان فريق الركلات والقبضات يحضر كي يمارس ما اعتاد عليه في وضعي بينهم ككيس ملاكمة! وحقيقة لا أدري كيف أن الساعات الثلاثة التي قضيتها في تلك المرة انقضت وقد حسبتها لا تنقضي أبداً، فالزمن كأنه توقف وقتئذ، كان وجهي منتفخاً كالبالون لا سيما من جهة الفم، وأقدامي ما عادت تحتمل الوقوف، ففي آخر مرة كان وقوفي كي أعيد الدم في عروقها قد كلّفني الكثير من الكيبلات والركلات، ومع أن جسمي كان محطماً، وكنت أتهاوى كلما أجبروني على الوقوف كقطعة قماش تلقيها من الأعلى، ولكن بين زعيق وشتائم وضربات وركلات هؤلاء الأوغاد الستة ماذا باستطاعة شاب مقيد معصوب العين لم يبلغ التاسعة عشر من العمر أن يفعل؟!!
وجاء الفرج حينما أمر التكريتي جلاوزته أن يتركوني ليوم غد، مع تهديد شديد بأن ما رأيته اليوم ما هي إلا مقدمة لما سأفعله بك غداً! مع التنويه بأني ضيفهم الوحيد تقريباً وهم متفرغون لي تماماً، ولذلك اذهب الآن وحضر لنا ما تفيدنا وتفيد نفسك به، وإلا لن يرحمك أحد هنا، ولا أخفي أنه حينما كان يهدد بما سيجري في الغد كان قلبي يسترد استقراره، فقراري الذي كنت ألتزم به هو أن أعيش لحظتي الآنية وأنشغل بها، وترك التفكير بما سيأتي في الغد، فما أدراني إن كنت سأعيش غداً؟ ولهذا تركت التفكير بالغد لله تعالى.
بالكاد حملت نفسي بمساعدة من الجلاوزة كي يعيدوني إلى المعتقل، ووصلت إلى حيث كان المراسل صادق ينتظرني في الباب، وكنت مهتماً بالحديث مع صادق حول طبيعة عمل هذه الشعبة، ولكنه حينما رآني ورأى عدم قدرتي على المسير طلب سيارة لنقلي، وبالفعل جاؤوا بسيارة بيجو 404 فنقلوني بها، وقد أعانه شخص آخر حينما بدأنا نصعد الطوابق الأربعة التي ينتهي إليها محل الاعتقال، ولذلك لم تحصل لي أية فرصة للتحدث مع المراسل، وحالما دخلنا اقتادني أحد الحرس وأوصلني إلى صالة الاعتقال، وقد أثار منظري ألماً واضحاً وتأثراً بين المعتقلين، خاصة بعض الذين جاؤوا بقضايا لا تعذيب بها كالاختلاس والابتزاز وانتحال صفة وأمثالها، كما أن الكثير من هؤلاء كانوا قد رأوني بعد جولات التعذيب التي مررت بها في الأيام السابقة، وخشي البعض بأني قد أكون اعترفت على أحد نتيجة لهذا المقدار من التعذيب، ولكني طمأنت الأخ بأن شيئاً من ذلك لم يحصل، وما أن ارتحت قليلاً حتى جاء الأخ الكردي دلاور فراح يدلّك القدم ويمرغ الأعصاب والعضلات بما احتفظ به من الزبد، ولم يمض وقتاً طويلاً حتى استعادت قدمي شكلها الطبيعي تقريباً بعد أن كان الضرب عليها قد نال منها جراحاً وأوراماً، فاستسلمت الى النوم نتيجة الارهاق والاعياء الذي اعتراني.
كان الطعام في المعتقل يتولاه متعهداً، وكان هذا الرجل يهتم بالسياسيين اكثر من غيرهم خاصة إن كانوا من المحسوبين على قضايا التديّن، ولذلك كان يترك لي طعامي ويوصي من بقربي به، وللإنصاف كان يضع مقداراً أكبر من اللحم والرز في وقت الغذاء، مع إن الشكّ بطبيعة تذكية اللحوم المستوردة كانت تجعلني لا أتذوق اللحم الذي يتركه لي، وأكتفي بمقدار من الرز، مع العلم أن الحالة النفسية الناجمة من التعذيب كانت تقضي على أي شهية لأي طعام، وقد اكتشفت بعد أيام أن بقعاً صفراء كانت تلون الجانب الداخلي من الفانيلا، ثم احتملت أنها من المواد التي تضاف إلى الطعام كالكافور وربما غيره، وهي مواد مهدئة في العادة، ولكنها أيضاً تعمل في حالات التعذيب على سرعة الاستسلام، ولذلك قللت من نسبة تناول الطعام جهد الإمكان، وحينما اكتشفت أن الشاي يستخدم أكثر من غيره في مثل هذه الحالة فامتنعت منه مطلقاً.
في ذلك اليوم دخل المعتقل اثنين من رجال الدين السنة وقد كان محل استقرارهم في الجهة التي تقابلني، وقد عرفت بعد ذلك أن أخاً ثالثاً لهم وضعوه في الإنفرادي وكان أخوهم قد تم تعذيبه وكسرت يده أثناء التعذيب، وقد تبين لاحقاً أن هذا الرجل هو الشيخ عبد الملك السعدي واخوته إن لم تخني الذاكرة كان أحدهم اسمه عبد الحكيم والثاني عبد العليم أو ما يقرب من ذلك، ولم ألتق بالشيخ عبد الملك من قبل، ولكن حينما سقط النظام وفي أعتاب التوقيع على وثيقة مكة في عام 2006 التقيت به في الطريق بين مكة والمدينة وذكّرته، فندّت منه آهة.. وللحق أقول إني رأيت من الرجل في قبر الرسول صلوات الله عليه وآله وقد فرّغوه لنا وتحديداً عند باب فاطمة صلوات الله عليها من البكاء والأنين ما لم أره من أحد، حتى أنه هتف بالذين تقدموا إلى الأمام أن يعودوا إلى باب فاطمة وعلي فهما الشفعاء بين يدي الرسول ص، وقد كرر نفس الحالة في البقيع المقدس رغم أنهم لم يسمحوا لنا بالصعود إلى البقيع المشرف بحجة تأخر الوقت والظلام الذي يهيمن عليه، وكان له نشيج هناك وهو يهتف بفضائل أهل الكساء عليهم السلام.
بقيت ليلي ذاك أفكّر بتعذيب الغد وما ينتظرني منه، فمن الواضح أن تعذيب الشعبة الثانية لا يقاس بما كان عليه التعذيب في الشعبة الخامسة، كما أن عدم اقترابهم من دائرة المعلومات التي تقلقني هو الآخر كان يبث لدي مخاوف في نفس المقدار الذي كان يفضي إلى الارتياح، فماذا لو أنهم كانوا يتعمدون عدم ذكر ذلك ليختبروا مدى صدقي في المعلومات التي أقدمها لهم؟ وماذا لو أنهم ألقوا القبض على الأخوة المعنيين بالمجموعة التي شكلناها قبل فترة وجيزة وهي تعنى بجمع كل ما يمكن جمعه من سلاح ومتفجرات؟، وقد تولدت الفكرة لدينا يوم أن استولى الأخ (ل.ب) حفظه الله بمعية الشهيد البطل السيد يحيى الحسيني (من أهالي منطقة الحسينية في كربلاء) وكان أميناً لمستودع السلاح الكيمياوي في معسكر أبو غريب، وتطورت الفكرة أكثر مع انضمام الشهيد البطل السيد خالد (من أهالي القاسم) الينا وكان أميناً لمستودع في معسكر التاجي، علماً أن السيد يحيى والسيد خالد كانا كثيري المكوث عندنا في البيت! وقد تجمع لدينا عدد كبير من متفجرات ما يسمى بخدع المغفلين.
على أي حال بقيت يومي ذاك مسهّداً وقلقاً مما سيحصل في الغد ولم تغف عيني إلا قليلاً، ولكن مع صلاة الفجر كنت قد استفتحت القرآن، وكانت الآية تتحدث عن الصبر، فوطنت نفسي بعد ان استرجعت وعاهدت الله ألّا أبدي أي عون للظلمة، مستمداً العون منه أن يعينني على ذلك، وما أسرع أن حل الدوام فانقبضت نفسي وما هي إلا دقائق حتى لاح لي صادق كما يلوح السياف إلى ذابحه! كنت مستعداً بعد أن جددت وضوئي، وكنت حريصاً على أن أكون متوضئاً أثناء التعذيب بغية التماس تحويل التعذيب وما أمر به في غرف التحقيق إلى عبادة لله، مما يشكل عنصراً إضافياً يساعدني على الصبر، وحينما ناداني الحرس كنت أقف على الباب، ونزلنا باتجاه غرف التحقيق، فسألت صادق متحيناً عدم وجود أحد معه عن الشعبة الثانية، فقال لي بأنها شعبة مكافحة التآمر على الوطن، وهي خاصة بالمؤامرات التي تجري على الحزب والثورة، وأردت أن أسأله عن سبب إحالتي عليها ولكن أحجمت عن ذلك، فلقد غرقت في معنى أن أحال على هذه الشعبة والتي تعني مكافحة النشاطات الوطنية التي لا تتخذ طابعاً سياسياً محدداً، فالأولى خاصة بالنشاط الشيوعي والثالثة خاصة بالنشاط الكردي والرابعة خاصة بالتحقيقات الجنائية والخامسة خاصة بما كانوا يسمونه بالنشاط الرجعي، وأعتقد أنها كانت مستحدثة على يد البعثيين وحزبهم.
سلمني صادق إلى جلاوزة الشعبة وبدأت المعدة تتقلص والقلب يغور والضغط ينخفض والعرق يتصبب فيما كان يمكن لنبضي أن يسمع صوته من يقف إلى جنبي، وما أن دخلت إلى القسم المعني حتى أوقفوني تحت الشمس وطلبوا عدم الاتكاء إلى عمود هناك، وذلك بعد إلقاء التحية المعتادة منهم والتي كانت مشكلة من كوكتيل من قبضاتهم وأكفهم التي تصارعت على وجهي، وحينما وقفت كان كل من يمر يلقي التحية علي على نفس الطريقة، وكل ذلك كان منمقاً بخليط من ألفاظهم النابية التي تعف أذان الحيي أن يسمعها!
وفيما أخذت الشمس تفعل فعلها بي بدأوا يحققون في الغرفة المجاورة مع أحدهم، وما هي إلا هنيئة حتى علا صوت التعذيب وآهات المعذب وصرخاته وأنينه وبكاءه، لم أكن أرى ما يجري، ولكن الصراخ والعويل كان يصمّ الآذان ويقتلع كل مجال كي تستقر نفسك، وتبات السكينة الداخلية في خبر كان، والضغط النفسي ووساوس الشيطان وتهويله تتلاعب بك يميناً وشمالاً، كما تتلاعب الركلات وقبضات المارين بي بجسمي، وأجهدت نفسي كي استحضر مواقف سعيد بن جبير وبلال الحبشي ومصعب بن عمير رض، ولكن مع كل ذلك لم أتحمل الصراخ الذي كنت اسمعه فأخذت عيني تذرف دمعها بلا إرادة مصحوبة بنشيخ خافت الصوت، مع أني سأحتاج إلى هذا الدمع وهذا النشيج بعد قليل حينما تبدأ الحفلة معي، واحتملت أن يكون كل ذلك هو تسجيل يراد منه إيهامي بوجود هذا المستوى من التعذيب، كما اشار اليه احمد رائف في كتابه البوابة السوداء مما كان يجري في سجن ابو زعبل في مصر، ولكن ما دفع هذا الاحتمال أن أصوات المحققين التي أسمعها هي نفس الأصوات التي سمعتها بالأمس.
كان الوقت كأنه لا يتحرك، والشمس وكأنها واقفة على رأسي علماً أننا كنا في بداية الدوام، وكنت أريد أن ينادوني بأي وسيلة كانت حتى أتخلص من عذاب ما أسمع!
يتبع
الحلقة الرابعة: https://www.sh-alsagheer.com/post/4093
الحلقة الثالثة: https://www.sh-alsagheer.com/post/4078
الحلقة الثانية:https://www.sh-alsagheer.com/post/4067
الحلقة الأولى: https://www.sh-alsagheer.com/post/4052