بسم الله الرحمن الرحيم

سماحة الشيخ جلال الدين الصغير

حينما زعق الجلاد بجلاديه: لا ترحموه بعد الان فقد كنا نمزح معه (حينما كنت في الزنزانة الحلقة التاسعة)

3536طباعة الموضوع 2021-08-25


كانت أقدامهم وأيديهم وهراواتهم من الكثرة بحيث لم أعرف عدد المشتركين بحفلة الضرب هذه، ومع أنّ ضرباتهم كانت تمثّل عنفوان قوّتهم، غير أنّ هذا النمط من التعذيب كنت قد اعتبرته مجرد عملية إحماء ليس إلّا، لأنتظر القادم ــ والذي كنت أتوقع أنيكون استثنائيّاً هذه المرّة ــ وبالفعل مرّن الجلاوزة أياديهم وأرجلهم كما يتمرّن الرياضيون في تمارينهم الصباحيّة، ثمّ جاءالنداء: علّقوه! فابتدأت الحفلة،وكانت تمثّل بحقّ أشدّ حفلات التعذيب وحشية وشراسة، ولم أرَ لها مثيلاً من بعد.

 

    قيَّدَ أحدهم يديَّ بقيدٍ حديديّ من النوع المتحرّك إلى خلف ظهري، وهذا النوع من القيود يتميّز بكونه مسنَّناً، وكلّما ضغط عليه تنطبق أسنانه أكثر، وبالتالي سيزداد في ضغطه على المعصم، وأن تقيّد إلى خلف الظهر، يعني أنّ القيد سيخضع ــ بداهةً ــ للضغط الكثير أثناء تلوّي الظهر والجذع نتيجة للضرب المبرح؛ إذ حينها لن تملك من نفسك إلّا أن تموج تارةً إلى ذات اليمين وأُخرى إلى ذات الشمال، ناهيك عن ركلاتهم التي تدفعك مرّة من هنا وأخرى إلى هناك! وما يزيد آلامه أنَّ أيَّ ضربةٍ تأتي عليه ستكون ضربةً مضاعفة الشدّة لاشتراك الحديد مع الهراوة! وحقيقة تسبَّب هذا القيد لوحده بآلام غير قابلة للوصف!

 

عُلِّقت من رجلي التي رُبِطتْ بحبلٍ سميكٍ من اللّيف الخشن (نسمّيه في العراق بحبل الطنّب) لغلظته وشدّته وخشونته؛ فلقد كان العرب يسمّون الحبل الذي يشدّون به أطناب خيمهم بهذا الاسم، وشدّدوا الربط كعادتهم فكانت الخشبة تضغط من جهة على عظم الساق، ومن جهة على عظم القدم، وما بينهما كان كاحل القدم يكاد ينهرس بين هذا الضغط وذاك، وقد أُولي للحبل مَهمّة أن يتغلغل غائراً إلى ما تحت اللّحم من الأعصاب والأوردة، وهذا لوحده له ألمه المبرح الذي لا يهيد ولا يهدأ.

 

وسرعان ما جيء بكابلات مطّاطية وخشبة، كانت مهمة الكابلات قد اختصّت بالقدمين والساق، وأمّا الخشبة فقد اضطلعتبمهمة الأفخاذ والظهر والأكتاف لو وصلت إليها، ونتيجة لما رأيته سابقاً، فلقد كانت الخشبة عبارة عن لوح بمقاييس إنج ونصف في ثلاثة، أما الكابلات ففي الغالب كانوا يستخدمون ما كانوا يطلقون عليه (صوندة رقم ٧)  وهي عبارة عن أنبوب من المطّاط السميك بعرض ثلاثة أصابع أو أكثر بقليل، يتمّ ضغطه إلى الداخل فيتحوّل إلى هراوة مطّاطية، وعلى أيّ حال تداول الجلّادون الثلاث الضرب المستميت بالتناوب، ففي كلّ مرة كانت تنهال على جسمي ضربة هراوة مع ضربة خشب، فيما كان رابعهم ــ وهو الذي كان يمارس الأسئلة والحديث معي ــ قد يداري وجهي وما يطاله باللّكمات والصفع، أو بالرّكل إن سمح له تناوب الهراوات المنقضّة عليّ! ولكَ أن تتخيّل ذلك إن استطعت أن تتخيّل! رغم أنّه من العسير على من لم يجرب أن يتمكّن مناستيعاب ما كان يجري، فشتّان بين من يُضرَب بالعصا وبين من يعدّها، فيديَّ سرعان ما أُطبق القيد الحديديّ عليها إلىأقصى درجة، وكأنّ القيد لوحده ما كان كافياً بضغطه عليها، فكانت الهراوات تسقط على القيد فتزيد الألم صاعاً على صاع!

 

كانت الهراوتان المطّاطيتان التي تعاقبت على السقوط على قدميَّ قد أبلتا بلاءً كبيراً في إيجاد موج الألم الذي كان يعصفبي، وتمكّنتا من تفتيق جروح وفتح أخرى، ولكن لسعة الألم المبرح كان من خصائص الهراوة الخشبية، ولو سمّيتها بالصعقة لما بالغت.

 

لم أعبأ كثيراً بذاك الذي كان يلكمني ويصفعني ويركلني أثناء ذلك، وإن كان ضربه مستميتاً، وجعلني في حالة غثيان مريعة، ولكن الألم درجات والآلام التي كان يتسبّب بها أهون من ذلك اللّهيب الذي يشعّ من ظهري وأكتافي وأقدامي.

كان فريق التعذيب ثنائياً؛ أي لكلّ فريق مدّة تقرب من الثلث ساعة، فيتوقف الضرب لكي يدفع بي إلى أن أسير على أقدامي كي يعود الإحساس بالألم، ثم يتناوب فريق آخر على ممارسة التعذيب، وهكذا إلى آخر الحفلة!

بطبيعة الحال كان الملح المجروش ينتظر جراح القدمين، وكان الصف الثنائي الذي يعقدوه كمسار لي أثناء المشي يقف مستعدّاً ليطالني بكل ما يتمكن منه صفعاً وركلاً ودفراً ولكماً، وفي ذلك كانوا يحرصون على ألّا أقع في الأرض، وعدم تثبيتي ماشياً كانت ضرباتهم تتكفّل به، فإنّ ترنّحتَ من ركلةٍ قابلكَ الآخر بأُخرى أو بلكمةٍ، فيستوي جسمك وهكذا، أمّا لو قُدِّر أن وقعتَ فالهراوة المطّاطية تنتظرك في ضربٍ يسمّونه (حرّاً)؛ أي لا يبالون أين تقع الضربة حتى تنهض، وكلّ ذلك وسط صخبالشتائم والكلمات الساخرة والشامتة، ولذلك كنت بين نارَين، نار الاستمرار بالمسير وتحمّل آلام تداخل حبّات الملح المتناثرة على الطريق مع جراح القدمين، فضلاً عن استمرار الضرب المثير للغثيان، ونار الوقوع لتلقّي هراواتهم وهي تنهال عليك بكلِّ مالكلمةِ القسوة من معنى، هذا ناهيك عمّا يمكن أن تتسبّب الجراح التي تفتّقت من الظهر والأكتاف والفخذين من آلام دخول الملح فيها، وحقيقة كان هؤلاء لهم مهارات عالية جداً في فنّهم، ويا ويل من يشكّك بقدراتهم، فمن أكفأ من البعثيّين في وحشيّتهم وساديّتهم؟

 

في غمرة هذا الجنون كانت تتملكّني عدّة أفكار أساسيّة أهمّها تتمثّل في كوني كنتُ أرى نفسي في معرض الامتحان الإلهيّ، وأنّ الله ناظرٌ لما يجري عليَّ، وأنّ أقصى ما يمكن أن ينتهي إليه هذا التعذيب هو أن أُقتَل! ولو قُتِلت فهو بأجلِ الله لا بأجلٍ يحدّده الجلّاد (مصعب التكريتيّ) وجلاوزته، وما دام أنّ هذا القتل يحصل بهذه الطريقة، فإنّ الله هو الذي انتخبه لي، وبالتالي سيكون الأمر هو حسن العاقبة والمآل، أو أنّ الجلاد سيتعب في جلده وسيملّ من تكرار ما يفعل، أو أنّ طارئاً يسلّطهالله عليه سيصرفه عنّي، ولكنّ الله لن يصرفه حتّى أمضي في مسار الابتلاء؛ لأنّ الابتلاء ومخرجاته هو السرّ في كل هذا الذي يجري عليّ، ولهذا لا خيار أمامي إلّا الصبر والتحمّل، لأنّ عدم الصبر لن يعني إلّا السقوط والذلّ، ولن يكون السقوط المعنوي لوحده فحسب، وإنّما سيجعل الجلاد بشهية أكبر لممارسة ساديّته ومجونه، ففي غرف التعذيب من يتلفّظ بحرف ألف سيجبرأن يمضي لتلفظ بقية حروف الأبجدية؛ إذ لن يرضى الجلّادون منه إلّا أن يلفظ حرف الياء في قائمة المعلومات وكلّ ما يشين المرء! وسواء كنتَ راضياً أو لا فلا مجال لي إلّا أن أمضي مع خيارات الصبر وأتحمّل مراراته!

ولكن شتّان بين الكلام عن الصبر، وبين ممارسته، ولهذا كان خياري الذي اعتمدته أن أحاول أن أنسى الزمن، وأن أصبّرنفسي لتخطّي مرحلة من بعد أخرى، وما أعنيه بالمرحلة هو موجة التعذيب والاستراحة التي يتبادل فيها الجلّادون فيما بينهم،مع أنّها ليست استراحة لي من التعذيب، ولكن مهما يكن فإنَّ التعذيب في تلك الحال سيخفّ كثيراً قياساً لاستئنافهم التعليق من جديد!

لا أدري كم مرّة تمّ تعليقي وإنزالي، ولكن كان جسمي قد بدأ يتروّض على التعامل مع الألم، وكنت أُكابد أن لا تخرج منّي أيّ  صرخة ألم أو استغاثة، ممّا حدا بهم أن يزيدوا من وتيرة التعذيب، مع أنّ وضع التعذيب ومناطقه مملوءة، ولكن يبدو أنّهم ركّزوا على ضرب اللّوح الخشبيّ، مع توسيع مساحة المكان المسموح بضربه، وفي مرّة كان اللّوح قد أصاب ساعدي فنهر أحدهم منكان يضرب بأن ينتبه، وهو أمر كنت أعرفه فالمعذَّبون يُصنَّفون على طبقات، فهناك صنفٌ ينتقمون منهم ــ وهؤلاء لا معلومات لديهم ــ ولكن يُجلَبون لغرض التأديب، ولذلك قد يقسون عليهم بالضرب لحدّ أن لا يهتمّوا إن كُسِرَ منهم عظم في يدٍ أو قدم، ولكن مَن لديه معلومات فإنّهم عادة ما يحذرون من ذلك، كي لا يُجبَروا على قطع التحقيق من خلال إرساله للمستشفى وما يعني ذلك من تعطيل لعملهم، ولكن هذا لا يسري دائماً وفي كلّ الأوقات، فقد يملّ الجلاد فيقسو في مرحلة فيصيب منهم كسراً أو ما شاكل، وهذه الحالة مسموحة فقط للذين لا شأنيّة اجتماعية مؤثّرة عليهم.

أمّا من يُصنَّفون منهم بأنّهم لهم تأثيرٌ، أو أنّهم سيتعرضون لضغوط من أجل إطلاق سراحهم فيحرصون تماماً على عدم ترك أيّ أثر للتعذيب، ويمنع بذلك استخدام الضرب لأغراض الكسر أو التحطيم، وعادة ما يركّزون مع هؤلاء على أسلوب (التعليق)؛لأنّ ألمه يستديم ولا يمنح الضحية فرصة الاستراحة، على أيّ حال كان للضربة التي تلقّيتُها ألمها على ساعِدي، ولكنها تماهت مع بقية مفردات موجة التعذيب.

جفاف الحنجرة والفم، والصدمة التي عطّلت الغدد اللّعابية جعل كلماتي التي أُجيب بها على أسئلتهم تخرج بحشرجة عاليةوصرير كما أي عتلة صدئة تريد فتحها، شدّة اللّهاث الذي يتسبّب به الضرب على الوجه وما يصاحبه من غثيان يجعلك تحسّبأنّ الهواء قد نفد، واللّهاث على حنجرةٍ يابسةٍ كالصخر يبدو للوخز والتجريح أقرب منه إلى أيّ أمر آخر، ويزيده الاستمراربالضرب بدون أن يفسح المجال لأيّ استراحة، فلقد كنتُ كمن في حلبة ملاكمة لا نهاية لحركة ملاكمها، فالضربُ على الوجه غير مشمول باستراحة التبادل، وكم من مرّة أشعرتهم من خلال صوتي المبحوح بالاختناق، ولكن التلبية كانت هي المزيد! وكم من مرّة أردتُ طلب الماء ولكنّي كنت أتذكّر ما فعلوه بي أمس حينما طلبت الماء، مما يدفعني للتمنّع، وهو امتناع كان يزيدهم شراسة وشدّة، فلو طلبت فأنت في بلاء! ولو لم تطلب سيفسرونها بأنّها دالّة على عدم التأثّر بوتيرة التعذيب، مما يعني مزيداً من الألم.

 

جاء صوت (مصعب التكريتيّ) من باب الغرفة وكأنّه كان خارجها وهو يسألهم: هل تكلّم ابن ال …؟ فقال له جلّاده الذي كانمسؤولاً عن مساءلتي: كلّا سيدي!  لا زال يجرّب أن يكون كبلال الحبشي! ولكن بعد قليل سنجعله يغرّد كالبلبل، فلا زلنا فيأوّل الوقت، واليوم سنسهر معه.

جاءتني عندئذ ركلة في بطني، وأَحسَبُ أنّها كانت من نفس (مُصعب)، ففسّرتها ضربة حنق ويأس! ولكن اعتراني همّ شديد سرعان ما جثم على فؤادي، فما هو هذا الذي ينطوي عليه كلام الجلّاد حينما قال: (بعد قليل سنجعله يغرّد)؟ وبدأ هذا الهمّ يتبدّد شيئاً فشيئاً حينما كنت استعرض ما يمكن أن يقوموا به أكثر مما قاموا به؟ ووجدتُ أنّه لا يوجد ما يضيفوه اللّهمّ إلّا أن يزيدوا الألم بطريقةٍ وأُخرى، ولكنّي كنتُ غارقاً في معين الألم، فإضافة ألمٍ على ما أنا عليه لن يغيّر المعادلة، ولن يضيرني بالشيء الكثير، فيما كانت وساوس الشيطان تحاول أن تعلو لتأخذ منّي مأخذها ومهمّتها كانت بوضوح تهويل شأن الجلاد، وتخذيل إرادة الصبر، ولا زلت أتذكّر أنّ واحدة من الإثارات كانت تتعلّق بفلان الفلاني الذي كنتُ أمتلك المعلومات الخاصة عنه،فهو جالس في بيته مرتاح، وأنا هنا تحت العذاب فلو اعترفت عليه ما الضير لو أنه جاء بدلاً عني ريثما أستريح؟ وهو حينما ينال التعذيب إنّما سينال الثواب والأجر على ذلك ويكون من الصابرين، والله يحبّ الصابرين! ولكن هيهات! كنتُ أردّد فينفسي، وأُخاطب هذه الوساوس: لُعبتُكَ أيّها المضلّ المبين لن تمرّ، وحقيقة ما كانت هذه الوساوس لتستسلم بسهولة، بَيْدَ أنّ ماكان يبعث فيّ العزم على عدم الإصغاء أنّها كانت واضحة في عداوتها لي، وخادمة للجلّادين بالرغم من أنّها مغلَّفة بغلافالحرص عليّ!

لم يمضِ التعذيب كثيراً حتّى حلّ وقت تبديل فريقي التعذيب، فقال الجلّاد المحقّق بعد أن أجلسني: لن أقول لك اعترف بعدالآن، فمن الآن فصاعداً سأجعلك تتوسّل لي لكي تعترف، وأعقبها بلطمة شديدة على فمي وأنفي، ثمّ صاح بزعيق على جلّاديه: لا ترحموه بعد الآن فلقد كنّا نمزح معه!  وجاء وقت الجد، لم تضف الرّكلات واللّطمات جديداً عليَّ، ولكن همّ الوعيد ومايأتي به عاد ليملأ كياني من جديد، ولحظت أنّي كنت أرتجف! فيما كانت رعشات الكتفين تضيف إلى أعبائي إعياءً جديداً، أعتقد أنّ دمعة نزلت من عيني وقتها وأنا أهتف في داخلي بكلمة: يا ربّ!

لم أزد على كلمة: يا ربّ الشيء الكثير حتّى وجدتُ نفسي أمام مصداق الوعيد الذي توعّدوني به..

 

يتبع

الحلقة الثامنة: https://www.sh-alsagheer.com/post/4535

الحلقة السابعة: https://www.sh-alsagheer.com/post/4140

الحلقة السادسة: https://www.sh-alsagheer.com/post/4132

 الحلقة الخامسة: https://www.sh-alsagheer.com/post/4117

الحلقة الرابعة: https://www.sh-alsagheer.com/post/4093

الحلقة الثالثة: https://www.sh-alsagheer.com/post/4078

الحلقة الثانية:https://www.sh-alsagheer.com/post/4067

الحلقة الأولى: https://www.sh-alsagheer.com/post/4052

 

التعليقات
الحقول المعلمة بلون الخلفية هذه ضرورية
يا منصور
2021-8-25
لا اله الا الله حسبي الله ونعم الوكيل على من يترحم على ايام النظام السابق لعنة الله على صدام وازلامه والمترحمين عليهم
ساعد الله قلبك يا شيخنا واثابك اللهم على كل خلية تألمت من جسدك قرباً الى الله وارتفاعاً بالمنزلة
مواضيع مختارة
twitter
الأكثر قراءة
آخر الاضافات
آخر التعليقات
facebook
زوار الموقع
10 زائر متواجد حاليا
اكثر عدد في نفس اللحظة : 123 في : 14-5-2013 في تمام الساعة : 22:42
عدد زوار الموقع لهذا اليوم :9219
عدد زوار الموقع الكلي: 27293543
كلمات مضيئة
قال الإمام الصادق عليه السلام: من أحبنا كان معنا أو جاء معنا يوم القيامة هكذا ثم جمع بين السبابتين ثم قال واللَّه لو أن رجلا صام النهار وقام الليل ثم لقي اللَّه بغير ولايتنا أهل البيت للقيه وهو عنه غير راض أو ساخط عليه