بسم الله الرحمن الرحيم

سماحة الشيخ جلال الدين الصغير

لا انصح بقراءته إن كانت رقة قلبك عالية.. يوم ان علقوني كالفروج المشوي… (حينما كنت في الزنزانة ح١٠)

3525طباعة الموضوع 2021-08-29


كانت الهراوات المطاطية قد أزيحت واستبدلوها بألواح الخشب، لينهالوا معها على كل موضع غير قابل للتكسير، كان الضرب بلا هوادة، واشتعلت مناطق كثيرة من جسمي بألم ممضّ للغاية، وفيما كان هؤلاء يمارسون التعذيب كالضواري التي وقعت على فريسة، أستطيع أن أقول أن جهاز الخلايا الحسية والعصبية في جسمي ربما كان في فوضى عارمة، إذ ما أن تشعّ نقطة بالألم حتى تنبعث من عشرات غيرها نفس نداءات الاستغاثة والتحذير، لم يعد في مقدور ظهري أن يتلوّى، فلقد أنهكته هذه الموجة التي لا شك أنها ما عادت تترك مجالاً لثانية أو أكثر كي يستريح على جانب من جوانبه، وإنما كان كسعفة تهزها الريح في يوم عاصف، ومع وضوح أنني كنت أنهار جسدياً غير أنّ الجلادين كانوا قد ازدادوا ضراوة وشراسة، الأنفاس المتقطّعة التي أنهكت الرئتين، والفم المتحجّر، والحنجرة المثخنة بالخدوش، ووجيب القلب الذي كان يتقافز لمعدلات غير مسبوقة، وتقلصات المعدة والتواء الأمعاء، والغثيان واللهاث والخفقان المتسارع تعاونوا معاً لرسم لوحة لا يمكن للبؤس أن يعبّر عن نفسه بأجلى منها، ومعها كان التهديد بالمزيد يضغط، فيما الصيحات الماجنة والكلمات الشامتة ووساوس الشيطان التي تثري حالة الهلع وتهويل الأمر اصطفت مع الجميع كما تصطف الأمواج الصاخبة التي تهجم على الشاطئ لتنال من جرفه ما تستطيع!

لم يكن معي إلّا قوله تعالى: {الذين قال لهم الناس إنّ الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم}.. مصحوبة بذكريات الثبات من مصعب بن عمير وهاشم بن عتبة المرقال وحجر بن عدي رضوان الله عليهم وعليّ الأكبر عليه السلام، وهي ذكريات كانت تتقطع مع كل لسعة من ألواح الخشب أو صعقة من صعقاتها حينما تلامس الظهر أو الأفخاذ، وعملية الإمساك بها لم تك بالعملية السهلة بل كانت عزيزة المنال ومجهدة للغاية، إذ كنت كمن يحاول اللحاق بخيوط البالونات الغازية وهي ترتفع بالجو! حتى إذا أمسك بواحدة، قفزت الأخرى عنه عالياً، ولم أنتبه إلى أنّ عملية الانشغال بها كانت قد ساهمت بإبعادي نسبياً عن مجون وصخب الجلادين وما يفعلون.

لساني بدأ يلتصق بلثتي إن تكلّمت، وأصبح تحريكه يتعسّر مع مضي الوقت الذي كان كالسلحفاة في مسيرها، بل كان كالجاثم الذي يأبى أن يتقدّم، وشيئاً فشيئاً ما عاد يخرج صوتي إلا كفحيح الهواء مع حشرجة هي كالخربشة أو أقرب، ومع ذلك كانت حادلة التعذيب لا زالت نشطة تعلو لوحاتها الخشبية نزولاً وصعوداً على كل جسمي دون هوادة، وإرادة الجلادين ماضية في بذل ما يمكنهم من جهد لإثبات كفاءتهم، ولم يبدي الأفق أيّ بصيص من أمل لإمكانية نزول وتيرتها وخفّتها.

كان أنفي ينزف فتتحرك الدماء تارة على الخدين ذات اليمين أو الشمال وفقاً لحركة الضربات التي تتوالى من هنا ومن هناك، وأخرى تعلو إلى ما هو أعلى من الوجنتين، ولا أعرف ما هو حال أقدامي ولكنّي كنت أحسّ في بعض الأحيان بسيلان الدم منهما، وآلامهما المتأججة بفعل الملح المجروش الذي تداخل مع الجروح فوق حدود التصوّر، أمّا آلام الظهر سيّما من الجهة العلوية له فلم تكن كما هي عند الأقدام، مع أنّ صعقة الألم أثناء الضرب عليها كانت تفوق ما كنت أجده في الأقدام، وميزة ألم الأقدام أن تأثيره يطول أكثر من تأثير ألم عضلات الظهر والأكتاف.

استمر الحال على هذه الصورة إلى أن اكتشفوا عدم تمكّني من الكلام، ومع أنّهم حاولوا عبر اللطمات المتوالية التي تعرض لها وجهي وفمي أن أتكلّم مجبراً، غير أنّهم ربما أحسّوا بجفاف فمي، فأمروني عندئذ أن أفتح فمي بكل ما أستطيع، وفعلت مع أنني توجست مما كانوا يخططون له، فلقد كنت أجهل سبب ذلك، ثم اتضح سبب ذلك حينما عاجلوني برشقة ماء ملأت فمي وأنفي دفعة واحدة، كان لها تأثير الاختناق في لحظتها الأولى، ولكنه كان وقتياً، إذ سرعان ما ترطّب بسببه فمي ولساني، والهدف كان أنّهم يريدوني أن أتكلّم حينما يسألوني، وما كان لهم أن يدعوني أحسّ ببرد الماء إذ سرعان ما دارت عجلة العذاب مجدداً.

انفرجت باحة من الأمل حينما سمعت بعضهم يقول: "فروج" إذ حسبت أنّ وقت الغداء قد حلّ، وأنهم يذكرون الفروج كخيار لما يطلبونه، وهذا يعني أنهم سيتركونني لما لا يقل عن نصف ساعة لغرض أن يأكلوا، واتسعت آمالي حينما توقّف الضرب، وجاء من فكّ قيدي من الخلف واستبدله بتقييدي من الأمام، ولكن الذي حصل بعد ذلك أبدل الأمل إلى قصة آلام مضنية، لا يمكنها مغادرة الذاكرة أبداً، ولا زلت بعد ما يقرب من 45 عام على تلك الحادثة أتحسسها كما يتحسس المصاب بانفجار شظاياه التي بقيت في جسمه!

تمّ ضمّ يدي المقيّدة إلى أقدامي المقيدة وأصبحا بقيد يجمع بينهما، ثم كانت المفاجأة أنهم أدخلوا ما بينهما لوحاً خشبياً سميكاً، ثم رفعوني عن الأرض ووضعوا هذه الخشبة على مسند لها كطاولتين أو ما شاكل فاستقرت الخشبة عليها وتدلّيت أنا كما يتدلّى الفروج حين شيّه! كان الألم رهيباً بمحض التعليق هذا، فما بالك لو أنّه لم يكن كافياً لإرواء سادية البعثيين؟ فدارت محنة العذاب في بعد جديد، وعادت ضرباتهم تنهال من الجانبين على جسمي المدلّى!

كان رأسي في وضع محيّر، فلا أستطيع أن أتركه يتدلّى دون مسند، وكلّما حاولت أن أرفعه كان يزيدني رهقاً على ما لديّ، وهو في كلا الحالتين سيتسبب بآلام مبرحة لعضلات الرقبة، خاصة وأنّ وضعه بهذه الصورة كان يجتذب المزيد من مركز الثقل على فقرات الرقبة وعضلاتها ومراكزها العصبية، ونفس الأمر كان يسري على منتصف الظهر الذي كان قد تحوّل إلى مركز ثقل الجسد، ولكن هذه الأمور لم تكن أفدح آلامي، بل كان الضرب المنهال على المكشوف من الأقدام والأفخاذ والمرفقين فضلاً عن الساعدين، وبدرجة أقل على الأكتاف! هو الذي تسيّد ساحة استعراض الآلام المبرحة!

حمدت الله أنهم انتخبوا هذه الطريقة من التعليق ولم يستخدموا الصورة الأشنع منه والمتمثلة بتمرير اليدين المقيدتين من تحت الركبتين، وتكبيل القدمين وشدّهما إلى الجذع، مع وضع خشبة أو عصا حديدية تمر تحت الركبتين، كما وصفها أحد السجناء!

مع استمرار الضرب ذهب الروع مني، فما عاد يشكّل فارقاً كبيراً مع الذي كنت أتلقاه منذ الصباح، وما عدت أحسّ بالوقت، كما أنّي ما كنت لأرجو شيئاً لتخفيف العذاب، فلقد نفّذ الجلاد مصعب التكريتي وعيده، والكلام من الذي سيتوقف قبل الآخر؟ ترددت عبارة: "يخسئ الزنيم" في داخلي لعدّة مرات، مع اصطكاك في الأسنان، وبدا لي أنّ ذهني بدا وكأنه أخذ يتحرر من التركيز على الضرب وآلامه، بل أخذت أفكّر أبعد من غرفة التعذيب، وتذكّرت عهد يوم أمس في ألّا أسمعهم صراخاً، وقد زاد اعتدادي بنفسي أنني لحدّ الآن قد وفيت بالعهد، فرجوت الله أن يعينني على أن أكمل المشوار بسلامة من ديني وبعزّة من نفسي.. كنت أسرح بهذه الأفكار ويبدو أنني كنت لا أصغي لحديث المحقق الجلاد معي، لأني تلقيت ركلة على خاصرتي آنئذ كاد قلبي يتوقف بسببها، وسمعته يقول شاتماً بما يليق بلسانه: لماذا لا تجيب؟ فقلت له وفي صوتي حدّة وغضب ربما كان ناجماً من شدة ألم الركلة: ماذا أجيبك وأنت منذ الصباح لا تقول لي إلا أن أعترف ولا أعرف على ماذا أعترف؟ فلقد قلت لكم كلّ ما عندي، فمن يتلقى كلّ هذا الضرب هل تجده عاقلاً في ألّا يخرج ما في قلبه؟ هل تريدني أن أكذب عليك؟ فانهال يضربني بيديه بشكل هستيري وهو يصرخ بأن لا أصيح بوجهه؟

استمروا لدقيقة أو أكثر بقليل بتوجيه الركلات واللكمات مع سيل لا ينتهي من السباب البذيء والتهديد بالمزيد، غير أنّه طلب من جلاديه أن يستريحوا، كم أبهجتني هذه الكلمة رغم أنّها لا تعني أكثر من استراحة لدقائق، ولكنها في الواقع هي كل ما أطلبه من أمنيات تلك اللحظة، وكنت أتصوّر أنهم سينزلونني، ولكنهم لم يفعلوا بل تركوني معلّقاً، ولم أكن أحسب أنّ تركي سيهيّج الآلام وسيعيد ذهني للتركيز على أوجاعي وآلامي وجروحي، وكي يبرّوا بأخلاقيتهم قاموا برش الملح المجروش على أقدامي مع فركها به! قبل أن يتركوا الغرفة..

بعدها ببرهة قصيرة سمعت صوت أقدام تتجه صوبي، وما أن وصلت إلى جنبي حتى بدأ صاحبها يسبّ ويشتم الذين كانوا يعذبونني، وهو يظهر انزعاجه الشديد مما فعلوا بي وأني لا أستحق ما فعلوا وأمثال هذه الكلمات، لم أسمع هذا الصوت من قبل، ولكن ما كنت لأفوّت لعبة رجل الأمن الصالح والشرير، قال لي: إنّه يعرف والدي رحمه الله ويعرف شأنية الأسرة واحترامها، وأنّ هؤلاء مجرمين وحوش لا يميّزون بين الأشراف وغيرهم، فما رأيك أن أتوسّط عندهم ونكوّن أنا وإيّاك صداقة وأخوّة تليق بمن يعرفك ويعرف أسرتكم؟ فلو كنت تقبل بصداقتي فسأذهب إلى المدير وأعدك أنّي أؤثّر عليه، وسأقنعه أن يطلق سراحك، فمن المؤلم أن يذهب شبابك في السجن مع هؤلاء الوحوش! وأخلّصك من مصعب الحاقد! ولكن تكلّم معي واتركهم، وقل لي ماذا تعرف عن أعداء الحزب أعطني كم اسم حتى أقنع السيد المدير! وتماشيت معه فشكرته على كلماته الطيبة، وقلت له: هل تعتقد أنّ شاباً بعمري يمكن أن يمتلك معلومات عن هؤلاء؟ وحتى لو كنت أمتلك المعلومات هل يمكن أن أكتمها مع كل هذا الذي مررت به منذ شهر؟ المشكلة إنّكم لا تصدّقون أحداً ولا تثقون بأحد إلّا بهذه الطريقة التي تعاملتم بها معي.. قال لي وهو يظهر التعاطف: لا تحسبني عليهم، فأنا ضيف لديهم، ولكن حينما سمعت أن ابن الشيخ علي الصغير هنا جئت لزيارتك متعمداً! وبقينا لبضع دقائق يضحك أحدنا على الآخر، وانتهى الأمر بسباب مقذع مع لطمة شديدة على رأسي أحسست معها بألم فوري في رقبتي أكثر من أي مكان آخر، وصاح بالجلاوزة وهو يقول لهم: هذا لا يفيد معه الكلام.. وهكذا عادت حليمة لعادتها القديمة!

وتسارع القوم إلى فريستهم من جديد، ولكنهم لم يضيفوا جديداً على ما كان عليه الأمر من قبل، وباتت عملية الضرب مجرد ركام فوق ركام الضربات السابقة، ونسيت جسمي وتكرر مني وبلا وعي ألّا أجيب على أسئلتهم حينما يسألون، ما يجعلهم يصرخون بي، ولكن لم ترتفع وتيرة التعذيب، وكان بالإمكان أن أحسّ أنهم بدأوا يصابون باليأس من أن يحصلوا على ما يريدونه مني، بيد أنّي كنت في حال أبعد من أن أركّز على مثل هذه الأمور.. ولا أدري كيف انقدح في ذهني التفكير بأن أبدأ بعدم التحدّث مطلقاً، حتى لو كان مجرد التلفظ باسمي، وأن أصمت تماماً، فهم لن يجدوا بأيديهم إلّا أن يستمروا بتكرار الضرب، لم أطل التفكير في هذا الأمر وإنما شرعت فعلاً بتنفيذ هذا القرار.

بطبيعة الحال لم يحسّوا في البداية بأنّي بتّ لا أجيبهم ولا أتكلم بأي كلمة.. ولكن حينما أحسّوا بذلك هاجوا وعنفت ضرباتهم وعلا زعيقهم، ويمكن القول بأنّي فتحت أبواب غضبهم على مصاريعها، ولكن حقيقة ما عاد ذلك ليشكّل فارقاً بالنسبة لي، ولا يمكنني أن أقدّر كم من الوقت بقيت بهذه الحالة، وكم بقوا ينهالون عليّ بالضرب؟ غير أنّي استجبت لا إرادياً للتكلّم حينما حضر اللعين مصعب التكريتي، الذي أظهر غضباً واضحاً لاح على زعيقه وشتائمه، وبعد أن نضح بما يعتمل داخله، أمرهم بأن ينزلونني، ولكن مع إنزالي وفيما كنت أهيّأ نفسي كي أطلق زفرة العناء لأخلص لاستراحة أجرّ بها أنفاسي، وإذا به يقول لمعاونه: ليأتي كلّ الأفراد!

يا إلهي ماذا بعد؟ 

أما من نهاية لحقد هذا الرجل؟

عاد شعور الهلع من جديد وقد كنت حسبت أني سيطرت عليه! ولعل السبب في ذلك أني شعرت بالأمل ينبعث فيّ كي أحظى باستراحة، وإذا بي أجد عكس ما أمّلت.. خلال فترة وجيزة جداً كانت حركة الأحذية المسموعة تزداد باتجاه الغرفة، ولا أدري كم من الجلادين حظر في وقتها؟ ولكن بالتدريج يمكن القول بأنّ الغرفة تحشّد فيها عدد كبير منهم، أمر مصعب أن يتم فتح قيد رجلاي كي يعود الدم إليها، وحينما فتحوا القيد كان الخدر قد شلّ قدرتي على الإحساس بها، للوهلة الأولى لم أتمكن من الجلوس رغم طلبهم مني أن أفعل ذلك، فكأنني فقدت التحكم بأوصالي، ولكن هراوة انقضّت على ظهري بشغف خاص وكان لها صوت كصليل السلسلة جعلتني أحاول النهوض، غير أنّه نهوض جعلني انكفأ على وجهي، فثنّى صاحب الهراوة ضربته وثلّث وربّما ربّع فأجبرت نفسي على أن أقف على قدميّ، ولعل أحداً منهم أعانني على ذلك، ولكن ما أن وقفت حتى أحسست بأنفاس مصعب من جديد قريبة منّي وهو يقول: "ها يولّ! تتكلّم أو أريك نجوم الظهر الذي نحن فيه؟" احترت بم أجيبه وكأنه استبطأني، فصاح بجلاوزته: "استلموه براحتكم يا ولد!" ومن وقتها لا أدري كم من الأيادي والأرجل والقبضات والهراوات انهالت عليّ، وكأنهم انقسموا سماطين وجعلوني بينهم أو اعتبروني كيساً للملاكمة، لم يقصّروا أبداً في الذي طالبهم به الزنيم مصعب التكريتي.

لم يؤلمني الضرب فلقد كان جسمي مدبّغاً بدرجة كافية ليتحمّل كلّ ذلك، ولكن الغثيان والعطش والإعياء وانحباس النفس قد أخذ مني مأخذاً أشدّ، وكانوا في العادة يفعلون ذلك لمدة دقائق قليلة، ولكن هذه المرة طال الأمر وطال إلى حدّ الجزع من شدّة تأثير دوار الرأس وانقطاع الهواء، ولو قدّر أن أفلت من أياديهم وأرجلهم وهو أمر نادراً ما حصل، فإنّ الهراوات التي كانت كأعين الأفاعي تتلمّظ بفريستها شرهاً سرعان ما تنقضّ على الظهر أو الرأس وهو أمر ــ أعني الضرب على الرأس ــ لم يحصل إلّا نادراً، وانقضاضها ولسعاتها وما يشعّ بسببها من صخب المراكز العصبية المعلنة عن الآلام المبرحة، وهكذا كنت أعود لوسط الحلبة وموعدي المعتاد مع ركلاتهم وقبضاتهم ولطماتهم!

وأخيراً قرروا التوقّف بسبب تعبهم، وحقيقة بذلوا مجهوداً مضنياً! وانتهزتها فرصة كي ألتقط بعض الأنفاس، كدت أن أطلب الماء منهم، ولكنّي لم أجد جدوى لذلك، اقترب منّي مصعب وقال لي: سأتركك قليلاً بينما يأكل الشباب ففكّر جيداً قبل أن أعود لك مرة أخرى، وستجدني فوق تصوّرك.. سكت قليلاً قبل أن يستأنف كلامه ليقول: اعتقد أنّك تدرك ماذا تعني كلمتي؟ فلقد جرّبتني ولم تر بعد كلّ ما صممت عليه، فاليوم ستعترف، وإلّا سيكون انتزاع روحك أسهل بكثير عليك مما سأريك إيّاه، بل أؤكّد لك ستتمنى الموت كثيراً لو عدت ووجدتك لا تريد الاعتراف.. قالها ثم عاجلني بلطمة على وجهي وخرج.

تركني لتنتهبني الأفكار وتستلبني الهواجس.. وكأنّ ما كنت فيه لم يكف بعد حتى أسمع الوعيد الجديد بطريقة أكثر غلظة مما كان عليه من قبل! لعلّي من شدّة الإعياء حصلت على غفوة، قطعها وقع أقدام قريبة مني، ولكنها مرّت دون أن تتوقف عندي.. كان ما أراحني قليلاً شعوري أنّ الوقت ربما جاوز الثانية أو الثالثة ظهراً، ولكنّ مع هذا التهديد ما عاد للأمل متّسع في أن يعيدوني إلى المعتقل كي يذهب الجلادون إلى بيوتهم بنهاية دوامهم، ولقد قضيت الوقت أعيش القلق كلما سمعت وقع الأقدام أو أي حركة في الغرفة، وقد تساءلت: ماذا يمكنه أن يصنع؟ فجاءتني وساوس الشيطان لتهوّل الأمر عليّ ولتحاول أن تبعث الهلع في داخلي وتجيب: سبق أن قلت ماذا يمكنه أن يصنع وقد رأيته ماذا صنع بك! فهذا يريد ألّا يخجل أمام مسؤوليه فيجب أن تعطيه شيئاً كي يضعه في ملفك فهو محرج معك، فالملف لا زال فارغاً، فتنازل قليلاً وأعطه ما يسكته عنك! ولم يكن لهذا الجواب شأن يذكر عليّ فالاعتراف ليس محرماً فحسب، وإنما سيزيد من معاناتي، خاصة وأنّهم إن حصلوا مني على شيء مع رفعهم لمستوى التعذيب، فإنه سيجعلهم يزيدون التعذيب حتماً طالما أنّه يمكّنهم من أن يحصلوا بسببه على اعترافاتي، ولذلك كان قراري الذي انتهيت إليه هو أن استغل المرحلة التي وصلت إليها، فلعلّي مع موعد الفرج على مسافة خطوة قريبة، كما أنّني جربت أصناف الألم واعتدت عليها، فحتى لو أضاف أصنافاً أخرى فلن يحدث ذلك الفرق الذي يجعلني أعطي الدنيّة من نفسي لهذا اللئيم!

وبعد أن أحسست عدّة مرات بتقلّصات المعدة البغيضة حالما يقترب أحداً منّي، جاءت الأقدام التي ستقف عندي وسارعوا لإعادة تقييدي من الخلف من جديد والتفّ حبل الطنّب ثانية على أقدامي وراح القوم يمارسون اللعبة من جديد، لم يضيفوا شيئاً على ما كان من قبل، ورحت أسيطر على خلجات النفس واضطراباتها وعادت لي الأجواء التي تنسيني واقع التعذيب، ولهذا وجدتني أعود لفكرة أن لا أتكلّم حتّى وإن كان المتحدّث هو المجرم مصعب نفسه، منتقداً نفسي كيف أنّي تكلّمت بمجرد أن سمعت صوته، وفعلاً باشرت الأمر، وقد اتضح لهم رفضي للحديث لذلك زادوا من وتيرة التعذيب بمقدار مع استهزاء بأنّي أريد أن أصبح صحابياً وكأننا نحن كفّار قريش! ولم يفلح الأمر في زحزحتي عن ذلك، وإذا ما أجبروني على أن أقول أي شيء كنت أمثّل لهم أني أتكلّم وأحرّك لهم لساني ولكنهم لا يسمعون لي صوتاً، فيعاودون الضرب من جديد وفي بعض الأحيان كنت أحسّ من خلال زعيقهم أنهم يصلون حدّ الحنق، تكرر إنزالهم أقدامي من التعليق ضمن الفترة المعتادة، وإجباري على أن أدوس عليها كي يعود لها الدم المحتبس، وبالتالي حتى لا تتخدّر فأفقد الإحساس بالألم، ومعها تكرر الضرب أثناء المشي وحرصهم على أن يخالط الملح جروح أقدامي، وقد فعلوا ذلك عدّة مرات، ولكن لم تتغيّر الأمور بيني وبينهم.. فلقد بقيت أمارس لعبة عدم القدرة على الكلام وافتقادي للصوت..

ولكن هذا الحال لا بد أن ينتهي لمن ينتهي الأمر لصالحه، وبالفعل بعد مدّة وأثناء تمثيلي بأنّ صوتي لا يخرج أثناء الحديث.. سمعت المحقق الجلاد يخاطب المجرم مصعب وكأنه صدّق بأنّي فقدت القدرة على الكلام: سيدي! عندها كلّمني المجرم التكريتي فأعدت عليه التمثيل! ومن نعم الله انطلت عليه اللعبة أيضاً! فأمرهم أن يخففوا عنّي قليلاً وأن يأتوني بماء، وكانت تلك إحدى أهم أمنياتي في تلك اللحظة.. الماء الذي حرمت منه منذ عدة ساعات وسط هذا الجو المحموم.. بعدها فقدوا الحماس الذي كانوا عليه فانخفضت وتيرة التعذيب إلى حدّ كبير، خصوصاً بعد أن لم يفلح الماء بحل عقدة الصوت عندي.. إلى أن جاء صوت مصعب يتهادى إلى مسامعي وهو يخاطبهم: اتركوه!

كانت هذه الكلمة لها معاني كبيرة جداً عندي، ليس لأنها تعني إيقاف التعذيب مع أهميتها في هذا المجال، ولكنها تعني أن إرادتي انتصرت، وأن إرادة الجلادين انهزمت.. افترّ ثغري بغير إرادة عن بسمة بمقدار قدرة شفاهي المتورّمة والمدمّاة، ولا أدري إن كانت البسمة على بساطتها كانت ساخرة أو معبّرة عن الحمد.. ولكن مهما يكن فقد كان شعور النصر يملأ إهابي.. ومن حسن الحظ أنهم لم يروها وإلّا ربما عاقبوني عليها..

هدأ المكان وانخفضت الأصوات.. جاء من فكّ قيودي.. لا أدري كم بقيت ممدّداً بلا حراك وأنا مزهو بما تحقق، ولعلّي أصابني العُجب مما فعلت ولم انتبه لهذا الأمر في خضم ما كنت أعيشه في داخلي، فلقد نسيت الألم وعالمه وبتّ أرى في نفسي إنجازاً كبيراً.. ولم انتبه أنني ارتكبت ما لا يليق بي، وكيف لا يكون كذلك؟ والإمام السجاد عليه السلام يقول في دعائه: ولا تفسد عبادتي بالعجب.. وانتشيت بما حصل! ولكن جاء من يذكّرني بجريرة ما اقترفت..

طلب مني أحدهم أن أجلس فتحركت وأحسست بآلام الجسد تعاودني، وحين نهضت رفع عن عيني العصابة التي تغطيها، كان الضوء قد منعني من أن أرى للحيظات ريثما استعادت عيني القدرة على الرؤية بعد ساعات من الظلمة.. رأيت مصعباً يجلس وراء مكتبه متشاغلاً بملفات أمامه ونظرت إلى الساعة الحائطية وهي تشير إلى ما يقرب من السادسة والنصف.. يا الله كم ساعة قضيتها تحت التعذيب؟! قرع المجرم على جرس المكتب فدخل أحدهم وقال له: أرجعوه! كانت الكلمة من أجمل الكلمات التي كنت أتمنى سماعها، دخل أربعة أو خمسة من الجلاوزة ليرفعني بعضهم.. ولكن ما أن بدأت أحاول الوقوف وإذا بواحد من هؤلاء ربما كان أصغرهم، أحمر الوجه بعيون ملونة، وكان يحمل هراوة مطاطية بيده وهجم عليّ من بينهم كما الذئب الضاري، كأنّه أفلت من عقال! صعقت بما فعل، ورغم أنّ المجموعة التي كانت من الجلاوزة بدا وكأنّها متفاجئة بما يحصل ثمّ حاولت منعه، ورغم أنّ المجرم مصعب يخاطبه بنبرة عالية بأن يتركني! إلّا أنه ظل! على ضراوته ينال منّي كلّ ما أمكنه بهراوته وبأقدامه، تلقيت عدّة ضربات على رأسي، وركلني أكثر من مرة على خاصرتي وعلى بطني، وظل مندفعاً على هذا النحو حتى أنّ مصعباً نهض بنفسه ليمسك به، وفعلاً أمسك به، ولكن الخبيث ظلّ مصرّاً على لؤمه، ولم يفلحوا من صدّه إلّا بعد مضي ما يزيد على ربع ساعة.. شتمه المجرم مصعب، ولكن عينه ظلّت تتلمّظ بي، حتى أخرجوه من الغرفة بطريقة بدت وكأنها بالإجبار والدفع.. ولا أدري إن كان هذا الأمر بتدبير منهم، أم كان تصرّفاً فردياً.. فلقد رأيت جهد الأفراد للإمساك به بل وحتى جهد المجرم مصعب لصدّه بدا وكأنّه كان جديّاً، ولكن مثل هذا الأمر لا يحصل في العادة إلّا بأحقاد خاصة، وما من معرفة بيني وبينه تستوجب ذلك! ولا زلت أتذكّر أنّي رأيته صدفة بعد حوالي سنتين وأنا متّجه لزيارة الإمامين الكاظميين عليهما السلام وكانت نظراته تحكي نفس النظرات التي رأيتها في غرفة التعذيب! وهو يسمعني صوته: ألم تمت بعد؟

بقيت أشعر بالذهول وكانت كل حركة من أي واحد منهم تؤجج فيّ رعباً وهلعاً، فلقد أصابتني المفاجأة بعد الفرحة التي علتني بانحدار معنوي كبير، وكانت أوصالي ترتعد حتى حينما كان المجرم مصعب يتحدّث معي لم انتبه له كثيراً، فلقد كانت عيني مسلّطة على الباب خوفاً من أن يهجم عليّ هذا المخلوق من جديد!

قال المجرم مصعب: من حسن حظك أنّي متعب الآن وإلا أبقيتك في ضيافة الشباب، وستعود إلى المعتقل الآن، ولكن عليك أن تحسب حسابك ليوم غد، فيوم غد لن يكون كما اليوم.. قالها وخرج..

يتبع باذن الله

 

الحلقات السابقة..

الحلقة التاسعة: https://www.sh-alsagheer.com/post/4606

الحلقة الثامنة: https://www.sh-alsagheer.com/post/4535 

الحلقة السابعة: https://www.sh-alsagheer.com/post/4140

الحلقة السادسة: https://www.sh-alsagheer.com/post/4132

 الحلقة الخامسة: https://www.sh-alsagheer.com/post/4117

الحلقة الرابعة: https://www.sh-alsagheer.com/post/4093

الحلقة الثالثة: https://www.sh-alsagheer.com/post/4078

الحلقة الثانية:https://www.sh-alsagheer.com/post/4067

الحلقة الأولى: https://www.sh-alsagheer.com/post/4052

التعليقات
الحقول المعلمة بلون الخلفية هذه ضرورية
ابو محمد العامر
الخليج
2022-7-28
لا حول ولا قوة إلا بالله…كلها مؤلمة أعانكم وسدد خطاكم وأجزل لكم الثواب على صبركم ونشر هذه الحلقات التي تنبهنا إلى أين يمكن للإجرام أن يصل. شيخنا الحليل نتاظر باقي الحلقات والتكملة وأسلوبكم الشيق جداً
الفريجي
العراق
2021-9-1
لاحول ولاقوة الا بالله العلي العظيم
لعن الله البعث الكافر
يا منصور
العراق
2021-8-30
حسبي الله ونعم الوكيل شيخنا اشكو الى الله ما مر بك من الام ومعاناة واسأله ان يعوضك في الدنيا وفي الاخرة عن كل الم وكل مرار وغصص تجرعتها
حسبي الله ونعم الوكيل
ام زيد العبيدي الغبيدي
العراق
2021-8-30
لعنهم الله واخزاهم أعداء الله وأعداء رسوله
ازهار احمد
العراق
2021-8-29
احسنتم شيخنا
لو تنشر سيرتكم الذاتية في الفيس حتى الناس تعرف جهادكم ونضالكم
مواضيع مختارة
twitter
الأكثر قراءة
آخر الاضافات
آخر التعليقات
facebook
زوار الموقع
15 زائر متواجد حاليا
اكثر عدد في نفس اللحظة : 123 في : 14-5-2013 في تمام الساعة : 22:42
عدد زوار الموقع لهذا اليوم :2489
عدد زوار الموقع الكلي: 24562610
كلمات مضيئة
قال الإمام الصادق عليه السلام: من أحبنا كان معنا أو جاء معنا يوم القيامة هكذا ثم جمع بين السبابتين ثم قال واللَّه لو أن رجلا صام النهار وقام الليل ثم لقي اللَّه بغير ولايتنا أهل البيت للقيه وهو عنه غير راض أو ساخط عليه