بسم الله الرحمن الرحيم

سماحة الشيخ جلال الدين الصغير

اقترفت خطئاً فادحاً إذ ناديت بصوت ضعيف: يا الله! حينما كنت في الزنزانة (الحلقة الرابعة)

3777طباعة الموضوع 2020-05-11


أوقفني المراسل في باب أحد الغرف وأدخل كتاب نقلي من الشعبة الخامسة إلى الشعبة الثانية، وإلى حين أتم التسليم والتسلّم كان وجهي مسرحاً يستعرض فيه المارين من أفراد هذه الشعبة قدرات أكفهم وقبضاتهم، وفيما كنت أتمايل مع هذه القدرات كانت ضحكاتهم العالية تارة وقذارات ألسنتهم أخرى تعبّر عن مشاعر السادية التي تتملكهم، ولا أدري إن كان ذلك ضمن بروتوكول التسليم ومن أصول الاستقبال أم أن هؤلاء كانوا يندفعون تلقائياً وبسجيتهم الخاصة، ومع أني بدأت أتحسب لكل قادم ومدبر ومع ما يتطلب ذلك من حرق للأعصاب واستفزاز في المشاعر، إلّا أن بعضهم مرّ ولم يجرب يده في وجهي أو بطني وخاصرتي ربما لنسيان أو غفلة!.

لم تطل إجراءات التسليم بنا طويلاً، حتى تم جرّي إلى غرفة مؤثثة بأثاث متين، وقد جلس عليها رجل ثلاثيني، وفيما هو يطالع أوراق ملفي كان يحدّق بي بين الفينة والأخرى، إلى أن نطق أخيراً فقال: شوف يول!! يبدو أن بدر والولد ما كانوا يعرفون يتعاملون معك، ولكني سأجيد التعامل معك، وأنا كلمتي واحدة، فإما أن تتعاون معي وسأكافؤك جيداً وأطلق سراحك وأوصي مدرستك بإنجاحك، أو لن تراني بعد ذلك وسترى غيري، وستترحم على لحظة وقوفك هنا، لا أعرف هذا الرجل ولا أعرف مهمات هذه الشعبة التي نقلت إليها، وحتى لا أبدو متشدداً من البداية فيعرفون أني متدرب على هذه الأمور وعندها سيكون التعذيب له طبقة مختلفة، وإنما يجب أن أبقى إنساناً بسيطاً في نظرهم، فقلت له: لم لا أتعاون معك، ومن لا يقبل أن ينجح في دراسته ويعود لبيته؟ فصفق بيده وقال لي: عفية بالسبع! إذن تكلم! فقلت له: عن ماذا؟ فقال لي: عن تنظيمك ومن معك؟ فقلت له: لم أنتظم لأحد أبداً. فصاح بي متأففاً مؤكداً أني قد لا أحظى بالبقاء معه لو أنكرت، فقلت له: لو كان معي أي شيء لاعترف به فلم لا أتكلم به؟ وماذا استفيد لو أنكرت ما أعرف وقد تحملت ما تحملت؟ فقال: شوف يول! هذه الكلمات سمعتها من كثيرين، ولكن بعد أن أرسلتهم للمكان الذي سأرسلك إليه عادوا يغردون كالبلابل! ناصحاً إياي أن أترك هذا الأسلوب، وأن أتكلم قبل أن يفرغ صبره، ونهض من الطاولة وتقدّم إلي وهو يقول لي بوجه غاضب ومستهين: ماذا قلت؟ وقبل أن افتح فمي حتى علاني بيديه صرباً وركلاً برجليه، ثم قال لأفراده: خذوه للعقيد أو العميد مصعب!!

جرّني أفراده بعد أن قاؤوا من أفواههم بما يتناسب مع سفالة تربيتهم، وإلى أن وصلت إلى غرفة مصعب هذا كنت أتلقى ما تمكنوا عليه من اللكمات والركلات وضرب الأكفّ! وحين أدخلوني على مصعب والذي تبين بعد ذلك أنه مصعب التكريتي، دفعوني لغرفته التي كانت هي الأخرى مؤثثة بشكل جيد، وكعادتي ألقيت السلام فلم يرد، وإنما رماني بنظرة فيها ما يجعل عضلات البطن تتقلص بألم، كانت الساعة قد اقتربت من الحادية عشر كما يظهر من الساعة الحائطية في الغرفة، فطلب منهم أن يوقفوني على جانب من الغرفة ويأتون بشخص اسمه وليد أو إبراهيم (والتردد مني) وسرعان ما جاؤوا بشخص ملتح وثيابه ممزقة ولكن جلده كان قد تيبس عليه الدم، اقشعّر بدني وأنا أنظر إليه مواسياً ومتوجساً مما سيحصل، وسرعان ما ابتدأوا بتعذيبه، ولكن كان التعذيب أشبه ما يكون بالذئاب إذا توسطت الفريسة بينها، والمنظر غير قابل للوصف، والأثر النفسي المنعكس عليّ كان هائلاً بين مواساة هذا الأخ، وبين ما ينتظرني مما يماثله، وكل ما أردت أن أدير وجهي أو اغمض عيني كانت لكماتهم تتوجه إليّ لكي أبقى أنظر إلى ما يجري لأن الدور لي بعده.

كان المنظر مرعباً بكل ما يمكن للرعب أن يوصف بمصداق، وحقيقة كان شعور المواساة قد طغى عليّ، فمن الصعب أن تجد أن إنساناً ينال كل هذا التعذيب ولا يتحرك لك قلب، ولا يتمرد عليك ضمير، ولكن التفكير بما ينتظرني هو الآخر لم يك راحماً لي، وكلما أردت أن استحضر قصص الصابرين كبلال وياسر وسمية والدا عمار (رضوان الله عليهم) كانت صرخات هذا المظلوم تقض المضاجع وتقطع حبل أي تفكير، فانشغلت بالدعاء له في أن ينجيه الله، كانوا يضربونه ويسألونه ولم يكونوا ينتظرون جوابه، بل كان الكيبل المطاطي التي يحملها أحد الجلاوزة من جهة، وقطعة خشب بسمك واحد في ثلاثة انج والتي يحملها جلواز آخر من جهة أخرى تستمر في الهبوط بكل قوة على جسده، بدون تعيين لأي مكان تسقط ضربة الكيبل عليه مع استمرار صاحب الخشب باستهداف قدمه وأفخاذه وظهره لو تلوّى، وقد استمر ذلك لما يقرب من ثلث الساعة، وأي ثلث كانت إذ تحسبها قطعة من الدهر الذي لا ينفذ، وقد حسبت أنهم انتهوا منه، وأعددت نفسي، وما كنت أحسب أن إثنين آخرين من الجلاوزة حلّوا بدلاً من الجلاوزة الذين تعبوا من الضرب! وخلال دقيقتين أو ثلاثة كان بإمكاني معرفة أن هذا المظلوم هو مؤذن في أحد جوامع الأعظمية، وكانوا يسألونه عن أوضاع المترددين على الجامع، لا سيما وليد الأعظمي الشاعر المعروف بانتمائه إلى أحد التنظيمات الإسلامية وقد سبق لي أن قرأت له شعراً، وعن صاحب مكتبة النذير في شارع المتنبي وكنت أعرفه، والرجل كما يبدو لي كان بسيطاً ولا يملك ما يريدوه، ولم تنفعه صرخاته ولا استنجاده، وفي مرة نادى المسكين مستنجداً بالرسول صلوات الله عليه وآله، فقال مصعب لزبانيته: نادوا على محمد ليأتيه، فدخل من نادوا عليه وكان ضخم القوام رياضي الجسم، وسرعان ما أمطره بوابل قذر جداً من السباب والشتائم لأنه أيقظه من النوم! وبعد ركلاته التي كانت تترامى عليه بلا تعيين وكانت ركلات محترفي الكاراتيه والرياضات القتالية، ثم أمسك بالخشبة وراح ينهال عليه بالضرب سائلاً إياه: ماذا يريد منه! وقبل أن يغادر هذا الوحش كان لا بد من أن يمرن أكفّه وقبضته على وجهي وهو يتضاحك ويخاطب جماعته إن ناداني فأبلغوني!

بطبيعة الحال كان مصعب التكريتي يوجه الحديث لي ما بين مدة وأخرى في أن أتهيأ، ولك أن تتصور ما يحصل في قلبك من وجيف، وحين يتصاعد القلب إلى ضيق الحناجر التي تحتبس عندها الآهات فتضيّقها إلى حد الألم، وما يحصل لمعدتك من تقلصات، وكيف يحتبس الهواء في رئتيك وأنت تسمع وترى كل ذلك، ومع أني من الناحية النفسية كنت في حالة لا أحسد عليها، ولكن مع ذلك كان تعاطفي مع هذا الرجل الذي عاودوا تعذيبه من جديد، وقد تبدّى بشكل واضح وصريح مما جرى معي وما جرى مع هذا الرجل بشكل أكبر في أن الإنسان لا قيمة له عند هؤلاء المجرمين، وأن كل ما يطرحونه من أكاذيب في الإعلام في شأن وطنيتهم وعروبتهم كان إهانة عظمى لكل ما يطرحونه، ومع أني كنت أتسامح في دواخلي مع الذي يجري علي، لأني أنا من انتخبت هذا الطريق مع معرفتي بأن فيه كل هذه المصاعب، ولكن ما رأيته عبر هذا الرجل ومع ما سمعته من قصص المعتقل، يعرّي ذلك تماماً ويظهر أن العراقيين كلهم بمثابة ساحة يبرز فيها هؤلاء الأوباش ساديتهم وعقدهم الداخلية الناجمة من نقصهم النفسي وعدم استوائهم التربوي، ومع هذا الشعور المؤلم والذي تحسه وقد أخذ بمخانق النفس كان الرجل المسكين قد عاود للصراخ، وهو صراخ لم ينتهي إلا عند الساعة الثانية عشر، ومعها كانت تشنجاتي الداخلية قد أخذت تطحن بكل شيء، فهذا ما يعني أن محنتي قد أزف موعد الضيم فيها.

التفت لي مصعب التكريتي وقال ساخراً: ها حجي جلال! تصلي لوحدك أم نصلي معك جماعة! ثم أردف ضاحكاً لن نتركك لوحدك تنال ثواب الجماعة، ونادى على عصابته وعدد 6 منهم بأسمائهم، وسرعان ما أحسست بكفّ مدوية قد نزلت على صدغي فانقدحت شرارات شتى من عيني، ولم أجد نفسي إلا وأنا ملقىً على الأرض، وما هي إلا لحظات حتى راحت الكيبل المطاطي العريض تنهال على ظهري وكأني كنت قاتل قتيلهم، وكان لكل لسعة منها ألم لا يعلم به إلا من تجرعه، فهو ليس من النوع الذي يمكن وصفه، فيما كان البقية يناولوني من ركلاتهم كل ما تمكنوا الوصول إليه من جسمي، واستمروا على ذلك مدة قبل أن يبدأ التكريتي بفتح سجل الأسئلة، والتي كان استنتاجي السريع منها أن هؤلاء لا يعرفون أي شيء عني، ولكن ما هالني أنهم ربطوا ما بيني وبين مؤامرة كانت تحاك من الإمارات!! عليهم، وبدأ التحقيق يركز على علاقتي مع الشهيد الكبير الحجة السيد مهدي الحكيم رحمه الله، ولم أك عارفاً أن الحديث عن الإمارات يستهدفه هو لأنه كان مقيماً فيها، ثم ذكرت أسماء السيد زهير الأعرجي والحاج طه جابر والدكتور أحمد الكبيسي وثلاثتهم لا أعرفهم، نعم كان من جملة الكتب التي أخذوها من مكتبتي هو كتاب "الإستعمار والإستعمار الجديد" للدكتور الكبيسي، وكان من جياد الكتب آنذاك، وله الفضل عليّ في تنبيهي وأنا بعمر الخامسة عشر أو السادسة عشر بأن الاستعمار المباشر غادرنا واستبدل نفسه باستعمار عملائه من جلدتنا الذين أطلق عليهم مصطلح الاستعمار الجديد، على أي حال استمر الضرب كي أعترف عن علاقتي بهؤلاء، ومع شدة التعذيب، ومع هول أن أكون محالاً لقضية مؤامرة خارجية وما يعني ذلك من التعذيب، إلا أن عدم معرفتهم بخبايا نفسي مكنني من سكينة داخلية ساعدتني جداً على تجاوز هذه المحنة، وبطبيعة الحال لم يك لهذه العصابة خيار إلا إظهار جبنها وخسّتها من خلال الفعل الوحيد الذي يجيدونه وهو اظهار عدم إنسانيتهم، ولذلك تطور الأمر إلى أن قال لهم التكريتي: شدّوه! ولهذا سارعوا إلى الإتيان بخشبة الفلقة وما هي إلا ثواني حتى كنت أعيش تحت وطئتها وسارعت الهراوة المطاطية لتنهال دون هوادة على كل ما يجتهد لإصابته رجل التعذيب، وتعاونت الخشبة التي كان جلواز آخر يحملها وكان الكيبل ينال من أقدامي والخشبة تنال من الأفخاذ والظهر لو أدى تلوّي جسمي من ضراوة التعذيب إلى أن أنقلب وكان حبل الفلقة يفعل فعله مع لحم القدمين، فيما كان القيد (الكلبجة) كلما تحركت يشتد وطأة بقفله على معاصمي (في لقاء لي مع وزير العدل البلجيكي في عام 1989 في بروكسل، قلت له إني أحتفظ بذاكرة لا تنسى عن بلجيكا وقد اعتبرها مجاملة مني فسألني مسروراً بذلك عن ماهيتها، فقلت له: لقد كان القيد الذي أخذ من لحم يدي مكتوب عليه" made in Belgium !! فتأثر جداً وقال لي: أنا مستعد أن أوافق على أي قائمة ترسلونها بغرض اللجوء، فقلت له: ما أنا بحاجة إليه هو منصة لكي أخاطب الشعب البلجيكي بالذي يجري في بلدي، وقد استجاب).

كانوا يتوقفون كل ثلث ساعة ليستبدلوا فريق الضرب، ولكن ما بين توقف وآخر كانت خمسة إلى عشرة دقائق يتم فيها فك رباط الحبال وإجبارك على المشي تارة كي يعود الدم وبالتالي تعود الخلايا الحسية كي يبقى المعذّب يحس بالألم، ولكن في حالتي ولأكثر من مرة كانوا يضعونني بين مجموعة منهم ككيس للضرب، لتتناولني قبضاتهم وركلاتهم وأكفّهم مع حرص على ألّا أقع أو أجلس على الأرض، ويستمر ذلك فأكون بين الغثيان الشديد وبين ضراوة ضرباتهم دون أن ينسون قذارة ألسنتهم!! مع التأكيد أن من دربهم على كل ذلك قد أتقن تدريبهم!

ثم تركوني والدماء كانت تغطي بعضاً من قدماي ووجهي، وكم كنت أتمنى أن تؤدي حالة الغثيان التي استحكمت بي إلى أن يغمى عليّ أنشد بذلك الراحة قليلاً، ولكن كان الإغماء بعيداً، وقد أقترفت خطئاً فادحاً في تلك اللحظة إذ ناديت بصوت ضعيف: يالله!

 

الحلقة الثالثة: https://www.sh-alsagheer.com/post/4078

الحلقة الثانية:https://www.sh-alsagheer.com/post/4067

الحلقة الأولى: https://www.sh-alsagheer.com/post/4052

 

التعليقات
الحقول المعلمة بلون الخلفية هذه ضرورية
حجي ابو محمد
البصرة
2020-5-20
لقد اثرت فينا جشوننا و استرجعت آلامنا ، و كأننا عدنا للفترة المظلمة التي استعبدونا خلالها و اذلونا ،، جعل الله معاناتك و آلامك في ميزان اعمالك ، شيخنا انت رمز كرامتنا و عنوان فخرنا ،، حفظك الله و رعاك ايها المجاهد الكبير
جميل
العراق واسط
2020-5-11

السلام عليكم شيخنا الفاضل حفظكم الله ورعاكم وسددخطاكم وتقبل الله طاعتكم وصالح أعمالكم في هذا الشهر الفضيل شيخنا العزيز اقترح ان نشكل كروب....


 


عليكم السلام والاكرام حياكم الله وتقبل الله اعمالكم وصيامكم 


بادروا الى عمل البر ونحن معكم

ابو محمد رضا
2020-5-11
لا زلت اتمنى ملاحقة هؤالاء الشرذمة حتى وان كانوا عجائز
مواضيع مختارة
twitter
الأكثر قراءة
آخر الاضافات
آخر التعليقات
facebook
زوار الموقع
13 زائر متواجد حاليا
اكثر عدد في نفس اللحظة : 123 في : 14-5-2013 في تمام الساعة : 22:42
عدد زوار الموقع لهذا اليوم :6362
عدد زوار الموقع الكلي: 27006389
كلمات مضيئة
قال أبو عبد الله الصادق ( عليه السلام ): أيما رجل اتخذ ولايتنا أهل البيت ثم أدخل على ناصبي سرورا واصطنع إليه معروفا فهو منا برئ ، وكان ثوابه على الله النار.