بسم الله الرحمن الرحيم

سماحة الشيخ جلال الدين الصغير

مشكلة الأفكار والمعتقدات الشاذة في مجتمعنا المعاصر



 

Abo Ahmad (مجموعة حكيميون) السلام عليكم شيخنا الكريم من الملاحظ ان الشارع يفتقد الى الوعي العقائدي لذالك نرى ان الكثير من الناس يتبع افكار جديده ومعتقادات شاذه وهذا لا ينطبق على شريحه واحده من المجتمع بل نرى ان الكثير من اصحاب الشهادات العليا يتبعون تلك الافكار والعقائد الشاذه حسب علمكم شيخنا ماهو السبب وكيف يتم علاج هذا الظواهر الشاذه في العقائد؟ وشكرا.

الجواب: في الواقع تعود أسباب ذلك إلى عوامل عديدة، فلقد مرّ العراق بظرف فكري شرس للغاية، وسط عناية كبيرة من قبل أنظمة العلمانية العربية قبل النظام الصدامي المجرم، وقد جاء النظام وأكمل المهمة التي أطلقها الفرنسيون والبريطانيون في العالم العربي والإسلامي في مطلع القرن الماضي، وعملت أربعة عوامل رئيسية على تقدّم نسبي لهذه الأنظمة في وسط شرائح محددة، بالرغم من أن نجاحها كان ظرفياً سرعان ما وجدناه ينحسر بشكل كبير لصالح المد الإسلامي الذي بدأ يأخذ قوته منذ منتصف ستينيات القرن الماضي، وهذه العوامل هي:

أولاً: الاضطهاد الأمني للطبقة المثقفة والواعية من هذه الأمة، فقد مرّ العراق بظرف قاس جداً في تعامل الأنظمة مع طبقته المثقفة والواعية، وأي رجوع لقائمة المتضررين من هذه الأنظمة لا سيما نظام المجرم صدام ستجد أن النصيب الأوفر كان لهؤلاء فقد تم التعامل بكل صور القمع مع أي نشاط ينقل الوعي للناس، ولم يكن القتل عملاً صعباً بالنسبة لهذه الأنظمة ولذلك لدينا قوائم بالآلاف من مفكري ومثقفي وأدباء العراق وقد طحنتهم ألات القمع لا لسبب إلّا لأن فكرهم يهدد المنظومة الفكرية التي كان النظام مع بقية الأنظمة العربية يعمل على إحلاله.

إن هذه الحالة التي اشتدت في مطلع ثمانينات القرن الماضي وتحديداً على إثر إنتصار الثورة الإسلامية المباركة في إيران عام 1979، بحيث رأينا المفكرين والمثقفين بين مقتول وبين سجين وبين مهاجر، تزامنت في نفس الوقت بإنهماك جلّ هؤلاء بالحالة السياسية وما أدى ذلك إلى تصدّيهم للشأن السياسي، بحيث ما عادت العملية الفكرية بالنسبة لهم كما كانت من قبل، لأن التفرّغ لهذا الشأن لا ينسجم مع التفرّغ لهذه العملية، مما أنتج فراغاً كبيراً في الساحة الفكرية، مما أفقدها العمق الذي كانت عليه، وسمح لأنصاف المثقفين أن يجدوا متنفّسهم في الساحة مما جعلهم يعيثون الفساد بها، لأنها خلت من رجالها المتصدّين، ولك من بعد ذلك أن تجد الساحة خالية من رجالاتها من جهة إلّا ما ندر، والأجواء المضادة للفكر الإسلامي في شقيها العلماني والطائفي هي المسموح لها فقط وبالنتيجة المتسيد عليها، وبقي أنصاف المثقفين ومن لا عمق له، هذا يصول بيد جذّاء وذاك بيد مبتورة،  وما بين هذا وذاك كانت الأجندات التي عبثت بالساحة من داخلها لا سيما تلك التي تم التخطيط لها في معهد الأمن القومي البعثي والذي جرى فيها اجتياح لعناصرها في داخل الحوزة في النجف الأشرف من بعد الانتفاضة الشعبانية المباركة وتحديداً في عام 1993 مما حوّل الأعداء إلى داخل المنظومة التي يتثقف من خلالها الناس فكان أن نتج لدينا خليط مريع من الأفكار والسلوكيات هي التي لا زلنا نرى آثارها بوضوح في بعض أنحاء مجتمعنا.

ثانياً: وضعت المناهج التربوية المضادة للدين والمذهب منذ بداية تأسيس الأكاديميات العراقية التي رعتها الدولة العراقية بالعنوانين الطائفي والعلماني، ورائدها في ذلك ساطع الحصري، وقد نمت الروح المضادة مع الأيام وتكاملت مع أيام النظام السابق، ولا زالت هذه الهجمة في شظاياها وإفرازاتها وللأسف الشديد تسيطر إلى حد كبير في الكثير من المناهج التربوية، وقد حرصت الدولة العراقية دوماً على أن يتم تلقّي هذا المنهج بشكل منظم لكل الشرائح التي تتواصل معها، ولهذا كنت تجد آثاره في الدراسة الإبتدائية فضلاً عن بقية الصفوف المتقدمة، أما التلفزيون ووسائل الإعلام المقروء والمسموع والمرئي فحدّث ولا حرج. ناهيك عن عشرات الآلاف من الكتب التي كانت تغزو المكتبات العامة ويمتدحها النظام ويغدق عليها وعلى مؤلفيها، علاوة على استقدام النخبة الفكرية المضادة من يساريين وعلمانيين والاحتفاء بهم في الجامعات، وكل هذه الأعمال والكثير من غيرها مخصصة لأغراض هذه الهجمة، بصورة جعلت العراق يمر بفترة يكون التحدث بها بالفكر الإلحادي او المتمرد على الدين هو عنوان الثقافة والتقدمية، فيما كان الذي يتحدث بالفكر الديني والمذهبي يوسم بكل النعوت التي تستقبح لدى العامة كالرجعية والطائفية وما إلى ذلك، ولو قرنت ذلك مع الهجمة التي يتعرّض لها المفكرون والمثقفون تعلم أن الهجمة يجب ان تنفّذ مع حرمان الآخر من حق الرد والتصدي لها.

ثالثا: وقد نشأت نتيجة لهذه الهجمة الكثير من النخب التي تربت على الفكر المضاد، وبنت أوضاعها الاجتماعية والسياسية وربما الاقتصادية على ذلك، وقد وسمت هذه النخبة بأنها الأكثر تقاطعاً وقطيعة مع الرأي الآخر بالرغم من أنهم يتهمون الإسلاميين بما يسمونه بالديماغوجية، وعادة ما يتعاملون مع رقبائهم الفكريين تعامل الضجيج والعويل أكثر مما هو تعامل المفكرين والمتحاورين، وهم لا يقلّون في هذا المجال عن نظرائهم السلفيين، فالسلوك واحد بالرغم من أن هذا إلى أقصى اليمين وذاك إلى أقصى الشمال، وعلى العموم فإن الكثير من أفكارهم تعرب عن جهل كبير في طرق التفكير وآليات البحث ومصادره، ناهيك عن الإستنتاجات التي تخرج بها مثل هذه المقدمات، وهذه النخب تم العناية بها مع الأيام بالشكل الذي جعلها تتصدّر الكثير من المناصب والمسؤوليات الثقافية والتربوية والإدارية، ولم يعد خافياً أن بعضهم كان مرعياً بصورة معلنة، والآخر كان مرعياً بصورة غير معلنة بحيث أن بعضهم كان يتصور أن مبيعات كتبه هي نتيجة مقبولية أفكاره، وما درى أن هناك أياد خفية تكمن وراء كل ذلك.

رابعاً: الظرف الاجتماعي والاقتصادي والأمني الذي عاشه مجتمعنا في حقبة الثمانينات وحتى سقوط النظام أوجد غربة كبيرة لدى المواطنين عن الجانب الفكري والثقافي، فاللهاث وراء لقمة العيش المنعدمة أو الهرب من حملات القمع الأمنية أو التسويق الاجباري لمعارك الحمق الصدامي أوجد قطيعة كبيرة بين الجمهور العراقي وهذا الجانب، وحتى أولئكم الذين بقيت لديهم رغبة التكامل الفكري ما عاد بإمكانهم نتيجة الظروف المتعددة ان يجدوا الكتاب، وتتذكرون جيداً كيف كانت سنوات الثمانينات والتسعينات حينما كان الناس يستنسخون الكتب بالخفاء بالرغم من التكاليف الباهضة التي لم تك بحوزتهم، وبالتدريج تحول المثال العربي المعروف: الكتاب يكتب في مصر وتطبعه بيروت ليقرأ في العراق إلى مجرد ذاكرة، وحلّت أوضاع الهرج والمرج من بعد السقوط، وانفتح الشارع العراقي على أمواج هائلة من كل أنواع الثقافة والتثقيف والتي حرم منها طوال عقود القحط البعثي، ولكن هذا الانفتاح كان يجري في كواليسه معركة شرسة بين بناة المشاريع الثقافية والفكرية وبين الجهود الأمريكية والبريطانية والموساد الإسرائيلي، وأنفقت أموال هائلة من أجل التأسيس لمزيد من الغربة عن الواقع الديني، في قبال الصورة التي عكستها أوضاع الفتنة والحرب الطائفية بكل ما فيها من إجرام جرى باسم الدين وتم الإعداد له بدقة، مما اطلق موجة كبيرة من الإحباط بعد ذلك الشوق الكبير، ولا يمكن لنا أن نغفل ما ادى إليه الستلايت والأنترنيت من تقديم الثقافات المختصرة التي تتناسب مع حالة الملل والعناء العام، فاخذ شبابنا يأخذون من كل من هب ودب.

وكل ذلك جرى ونخبة المجتمع الفكرية كانت هي الأخرى منشغلة لما ترتب على هذه الأحداث، فالأعباء السياسية والأعمال الحكومية أخذت مأخذها الجاد منهم، ناهيك عن الملاحقة الإرهابية لهم، إذ كانت المجموعات الإرهابية ـ والتي لا أشك أن أطرافها هم نفسهم الذين كانوا قد نفذوا الأجندات التي أشرت إليها ـ تلاحقهم أكثر من غيرهم، وكل هذا أخذ مأخذه الجاد ايضاً.

ولكن بحمد الله الصورة استقرت شيئاً فشيئاً، وأنا أجد أن أساليب مدرسة أهل البيت عليهم السلام رغم كل هذه الحالات بقيت تضخ في داخل المجتمع ما يحتاج إليه من أفكار ورؤى بالمقدار الذي يعالج المشكلات الآنية والعاجلة، وهنا لا بد أن انوّه بما قدمته شعائر الإمام الحسين عليه السلام على وجه الخصوص والتي لعبت دوراً هائلاً في مواجهة هذه الحملات الشرسة، وما رأينا في زيارة الأربعين لهذه السنة يظهر لنا أن الشعائر هي التي نجحت في كسب المعركة، بالرغم من أن شبابنا لا زال بحاجة ماسة إلى من يأخذ بأيديهم ليحولهم من العواطف والأحاسيس إلى الالتزام الفكري بالعقيدة المطهرة، واعتقد أن شعائر الحسين عليه السلام بممارساتها الشعبية أستطاعت أن تمنح الناس الكثير من الوعي، ولكن لا زال أمامنا مهام طويلة وأعباء ضخمة للوصول إلى النتيجة المرجوة.

التعليقات
الحقول المعلمة بلون الخلفية هذه ضرورية
مواضيع مختارة
twitter
الأكثر قراءة
آخر الاضافات
آخر التعليقات
facebook
زوار الموقع
31 زائر متواجد حاليا
اكثر عدد في نفس اللحظة : 123 في : 14-5-2013 في تمام الساعة : 22:42
عدد زوار الموقع لهذا اليوم :11457
عدد زوار الموقع الكلي: 27295781
كلمات مضيئة
قال الامام العسكري عليه السلام : قلب الأحمق في فمه وفم الحكيم في قلبه.