أفكار بلا عواطف
(1)
هل لنا أن نرفع رؤوسنا لنفتخر؟
تمتلأ الأدبيات الإعلامية والسياسية العراقية بشعارات عدّة كالعراقي يتقدم، أو عراقي وافتخر، أو ارفع رأسك انت عراقي ونظير ذلك الشيء الكثير، وما من ريب أن هذه الشعارات وليدة ظرف سياسي واجتماعي معين، وهي تستخدم لأغراض معينة بوعي ومن دونه، ولا يهم في يومنا هذا من استخدمها ومن وضعها؟ كما ولا يهم هل أنها نابعة عن أمل بالتقدم او عن رغبة به، وبعيداً عن أن تكون هذه الرغبة من النمط الخجول أو الجموح.
فمن يريد للعراقي أن يتقدّم بشكل جاد؛ عليه أن يواجه بشجاعة أسئلة موضوعية لا تتسم طبيعتها بالتسامح ولا بالتساهل في غالبية الأحيان، ولا يستخدم فيها منطق "الله كريم" الذي يجيد العراقيون استخدامه لتغليف إتكاليتهم وترحيلهم مشاكلهم للمستقبل المجهول، أكثر من استخدامه للتعبير عن انتماء عقائدي للصفة الإلهية المقدسة، وهذه الأسئلة ترتبط عادة بأصل عملية التقدم هوية وحدوداً وأهدافاً وشروطاً واستحقاقات وآليات.
فماذا نقصد بالتقدم؟
وما هي المديات التي نريد أن نتقدم فيها؟
وضمن أي صعد نريد للتقدم أن يشق طريقه؟
وما هي الأهداف التي نتوخاها من هذا التقدم؟
ومن بعد ذلك ما هي الشروط التي تتوقف عليها عملية التقدم؟ إذ أننا أمام عملية شرطية جادة وحادة في نفس الوقت، ولذلك الحصول على الجزاء له نفس تلك الجدية والحدية، فمن يريد الجزاء عليه أن يوفر الشرط المتقدم عليه والملازم لوجوده، وعليه فما هي الاستحقاقات التي علينا أن نعدّ ونستعد لها لكي نظفر بهذه العملية.
ولو قدّر وظفرنا بإجابات منطقية واتسمنا بالشجاعة المسؤولة لمواجهة الاستحقاقات المطلوبة، علينا أن ننطلق في عملية التعرف على الآليات المطلوبة لتحويل الخطوط التنظيرية لهذه العملية إلى واقع يتكرّس نعيش معه ونعايشه.
ولذلك قد تكون هذه الأسئلة شرسة وثقيلة ومزعجة للغاية، ولكن لا مفر من مواجهتها ومعرفة مصداقية ما نرفعه من شعار أو ما نتبناه من أمل، هذا إن كنا جادين بالفعل في تبني الشعار وتسويقه لأغراض التقدم والرقي والإزدهار، لا لأغراض الضحك على الذقون، أو لتغليف عمق التخلف الذي نعاني منه بأوراق الزينة المبهجة للعيون، أو لللفت الأنظار بعيداً عن واقع التراجع الذي يسم الواقع العراقي في مختلف الأصعدة والميادين، كما هو حالها اليوم.
وما من شك في أن الذي استفاد من مثل هذه الشعارات هي السياسة الفاسدة وسياسيوها الفاشلون، ومن تضرر منها هو اكثر من يتعطّش لها، ويرغب بها، وأعني بذلك المسحوقين من أبناء هذا الشعب، والقصة فيما أحسب ليست خاصة بالعراق، وإنما هي قصة تجدها بنفسها وتلاوينها المتعددة في الخليج كما في مصر كما في المغرب العربي أو الشرق الإسلامي، غاية ما في الأمر أننا قد نجدها في صور متعددة في غالبية البلدان التي تصنف بأنها من البلدان المتخلفة.
وبادئ ذي بدء لا بد من أن ننتهي من خلع البرقع المثالي الذي عادة ما يطرح على مثل هذه الأسئلة أو للتخلص من إجاباتها بأننا مررنا بظروف صعبة نتيجة الحكم الطاغوتي وسياساته التخريبية في كل الميادين، فمثل هذا البرقع وإن كان صحيحاً ما يتحدث عنه، إلا أن من غير الصحيح الوقوف أمامه وكأنه الحائط الذي لا يمكن تحطيمه.
كما ان من الواجب أن لا نبقى أسرى لأسطورة "صخرة سيزيف" التي طرحها الأدب الإغريقي، والتي تشير إلى أن سيزيف حكمت عليه آلهة الإغريق بأن يدفع صخرة إلى قمة جبل، وكان كلما رفعها تنوء عضلاته بثقلها حتى تتهالك لتسقط إلى الأرض ثانية، ومن ثم ليعود إليها ويدفعها مرة أخرى، ولتتكرر التجربة ويبقى هكذا إلى أن يفنى، فليس قدرنا أن نبقى متخلفين يسوقنا سوط العناصر التي جعلنا نرسف في واقع التخلف والانحطاط سواء كانت هذه العناصر هي الأستعمار بكل صوره وبراقعه، أو بصورة اليأس والإحباط الذي يرتشف كأسه أبناء شعبنا كل صباح ومساء، أو بصورة عدم الثقة بالنفس، أو بحجة التفرق الاجتماعي أو ما إلى ذلك فكلها وإن كان وجودها طاغياً في غالبية الأحيان، إلا أنها ليست من نمط القدر الحديدي الذي لا يمكن الانتفاض أمام وجهه ورفضه أو على الأقل تحجيمه ومحاصرته.
فها هي اليابان أمام أعيننا صورة ماثلة فيها الكثير مما يدعو إلى الاتعاظ والاعتبار، فمن المعروف أن اليابان عاشت أكثر من مئة سنة في مغامرات عسكرية ابتداءأ من غزوها للشرق الروسي مرورها باحتلالها للصين، وانتهاء بعظمتها في التخطيط العسكري المتقن في بيرل هاربور، وهي العملية التي وإن عدت واحدة من أتقن عمليات الدقة العسكرية والتي اودت بتحطيم مذل للأسطول الأمريكي، إلا أنها كانت الإيذان الجاد بإنهاء عهد المغامرات وإذلال اليابان المرير من بعد استهداف هيروشيما ونكازاكي عام 1945، والتي جرت من ورائها اتفاقية مذلة للغاية مع الأمريكيين، ومن ينظر إلى الصورة اليابانية يومذاك سيجد ملايين القتلى ومئات الآلاف من الأسرى والفقر والبؤس الذي عشعش في كل مكان ناهيك عن الصورة المفجعة مادياً ومعنويا المتخلفة في هيروشيما ونكازاكي، ولكن هذه الصورة المريعة لو اتخذناها كنقطة زمانية ووصلناها باليابان المعاصرة التي بدأت تتسابق في إذلال من أذلوها سابقاً بطريقة مذهلة لا دماء فيها ولا صخب ولا قنابل ولا صواريخ ولا هم يحزنون، فها هو الاقتصاد الأمريكي يئن من وطأة الاقتصاد الياباني، وها هو الين الياباني يبز في غالبية الأحيان الدولار الأمريكي والجنيه الاسترليني ويخضع في الكثير من الأوقات اليورو الأوربي لاستحقاقاته وشروطه فضلاً عن الروبل الروسي، أقول: ما بين لحظة الأمس ولحظة اليوم لا بد ان هناك لحظة قرار استراتيجية سحرية اتخذت في اليابان، تم عنونتها بنفس عنواننا اليوم: "الياباني يتقدم"، ولكن الفارق هو أنه بالفعل تقدم، وظل يتقدم، ولا زال يتقدم، فلم يتوقف عند ماضي مغامرات امبراطورياته العسكرية وما ألحقته من دمار وخراب، ولم يقف عند الصخرة الأمريكية يتحدث عن عدم جدوى تحطيمها، وبالرغم من ملاحظات حضارية متعددة يمكن سوقها على النموذج الياباني، إلّا أن القدر المتيقن هو أن اليابان مضت في شوط كبير وطويل في إطار التقدم والازدهار وتحررت من عقدها وقيودها ونهض الياباني يفتخر أين ما ذهب لأن "made in japan" أصبحت سمة عالمية للجودة والمتانة حتى داخل دول الإذلال التي سامت اليابانيين الأمرين.
نفس الصورة نجدها عند الألمان، فهم أيضاً بعد أن غزاهم الغرور الجرماني وحط رحاله في فلسفة نيتشه وأضرابه ونزوعهم لفلسفة الرجل القوي والعنصر الآري، وراحت ألمانيا تمارس دورها في مغامرات عسكرية كبدتها والعالم عشرات الملايين من القتلى ومئات الملايين من صور البؤس والدمار والخراب والضياع، ويكفي القول بأن الحربين العالميتين الأولى والثاني كان طرفها الأول ألمانيا، وطرفها الثاني كل البلدان القوية الأخرى التي تجاورها أو تبتعد عنها، ثم ما أن انتحر الفوهرر وزوجته وانهار كل شيء، وجاءت جحافل الإذلال الأمريكي والسوفياتي والبريطاني والفرنسي واذاقوا الألمان كل ألوان الذل، شتتوا الألمان ومرغوا الغرور الألماني بوحل الراين والرون، وتقاسموا ألمانيا والنمسا فما عاد للألمان إلا الأشلاء والمدن الخربة التي كانت عبارة عن ركام هائل من صخور البناء وحديد المصانع التي أطاحت بها طائرات الحلفاء ودباباته والمدفوعة بمزيج من الغضب الكبير والزهو العظيم، وعشرات الملايين من الشباب القتلى والنساء الأرامل ومثيلهم وأكثر من المعوقين والمعوقات، فيما كان الجوع والأمراض سمة عامة تسيطر على كل الألمان والمتبقي من دولتهم، ناهيك عن بقية البلايا والويلات التي أصابت البلد.
ولكن ما بين تلك اللحظات المريرة والأيام المرعبة والمريعة في عام 1945، وما بين يومنا هذا استعاد الألمان ما اقتطع منهم، وراحوا يبارون بلا دماء ولا حروب ولا جيوش ولا عسكريتاريا ولا أفكار التروتاليا كل ما لدى من أذلوهم بل وتفوقوا عليهم، وعاد الألماني يجد المجال ليعاود الزهو بنفسه ويلاحظ فضله على أوربا التي ما كانت لتنهض لولا العقل الألماني، وعاد المارك الألماني يجتاح أو ينافس غيره، وبات ليبل ""made in Germany عنوانا للفخر وغدا الألماني يقولها بكل افتخار ارفع رأسك فأنت ألماني!، وهنا أعاود التنبيه إلى أن ما بين أيام الذل وأيام العز لا بد من خط فاصل تم اتخاذ القرار الاستراتيجي الذي صنع الفارق بين اليومين.
ولا أحسب أن الأمر يتوقف عند القدرات المادية كما لا يمكن التحدث بمنطق الصدفة والحظ وما إلى ذلك، فهذا حديث العاجز، واسمحوا لي أن أسوق مثال آخر يتمثل ببلدان الهند الصينية والتي مرت بها مغامرات الأمريكيين والصينيين واليابانيين وتركت فيهم الكثير من صور الدمار والخراب، كيف نلاحظها اليوم وهي تسير بخطىً متسارعة نحو عالم الرقي والتقدم، ويكفي أن تراقب تايوان والتي تعتبر أحد الأمثلة الصارخة على ما أريد الوصول إليه، فتايوان لا تملك من الموارد شيئاً اللهم إلّا شعبها والبحر الذي يحيط بها، ولكن كيف استفادت تايوان من فقرها؟ لتتحول الآن إلى بلد يباري أكثر البلدان كفاءة في التصنيع الألكتروني، حتى رأينا أن حريقاً أصاب أحد مصانع الصناعات الألكترونية في تايوان قبل عدة سنوات كيف أصاب كل عوالم الأكترونيات في كل العالم بخلل جاد.
لا شك أن عملية التحول التي نراها في هذه الدول وغيرها كثير، ما جاءت بصورة اعتباطية، كما أن التحول ما تم بعملية قيصرية، وإنما كانت العوامل الموضوعية التي أنتجب البؤس والتي تم التأشير عليها بصورة شجاعة ومسؤولة من قبل صانعي القرار، أعقبتها عملية مسؤولة وجادة لملاحقة المتطلبات الموضوعية للتخلص من ركام الذل والخراب والقهر، ومعها جاء الحزم في تحمل استحقاقات التحول زمانياً ومكانياً واجتماعياً، ونهض الجميع ليلبي أغراض كل ذلك، سيّان في ذلك الطبقة المسؤولة أو أصحاب الرساميل أو الشرائح الشعبية.
في تراثنا الفكري والتاريخي ثمة الكثير مما يمكن اعتباره محطة للتأمل الجاد في شأن اللحظات التاريخية الحاسمة في التحول الشخصي أو الاجتماعي، إذ ما الذي يدعو إنساناً ملأ حياته بالعربدة والمجون، وضرب بمجونه على حائط الزمان والمكان لسنين طوال كبشر الحافي، ليتخذ خلال لحظة حاسمة قرار التخلي عن كل هذا الركام وينطلق في عالم مضاد جداً لما كان عليه، وكيف تراجع الحر بن يزيد الرياحي عن قرار المشاركة في قتل الحسين عليه السلام إلى قرار نصرة الإمام الحسين عليه السلام؟ وكيف انطلق مجتمع النبي يونس عليه السلام في الموصل من قرار الكفر إلى قرار الإيمان؟ وكيف ألقى سحرة فرعون أنفسهم ساجدين؟
إن كل ذلك يعرب عن وجود لحظة أشبه ما تكون بالسحرية ـ والتعبير هنا مجازي قطعاً ـ لا تأتي صدفة، وإنما يتم صناعتها بشكل موضوعي صارم، ومن خلال إرادة لا تتراجع ولا تلين أمام الصعوبات والمعوقات، وهذه اللحظة هي الحد الفاصل بين أن يغير الله الأقوام، وبين أن يشرعوا بتغيير أنفسهم، والبحث عن هذه اللحظة وتشخيصها، وإن كانت مهمة المفكر والاستراتيجي والمنظر والفيلسوف والسياسي وما إلى ذلك من النخبة المسؤولة والجادة، إلّا أن هؤلاء إن لم يتبانوا على قرار التغيير، وتسبقهم قناعة جازمة بطبيعة الخراب والفساد والفشل الذي يسم الواقع لا يمكنهم إلا أن يجودوا على الأمة إما بمزيد من سياسات الترقيع التي لا تغني ولا تسمن، أو بسياسات الخداع وشعارات التضليل ليبقى العراقي في كل الأحوال مخدراً بما يتلفع به من برقع "ارفع رأسك فأنت عراقي"، وبدون أن تعي شرائح الأمة المختلفة بواقعها المزري وتبدأ بصناعة كرة الثلج للمطالبة بالتغيير فإن ركام الواقع السياسي سوف يبقي الأمة بعيدة عن النهوض، وسوف يدفع الأمة إلى المزيد من تعاطي مورفين "عراقي وافتخر"..
ما من ريب أن العراقي من حقه أن يفتخر، ولكن ثمة فرق بين افتخار حقيقي يقوم على بناء حقيقي، وافتخار لا يقوم على أسس حقيقة، وبناؤه عبارة عن ركام من الملح.
إن ما يمرّ به العراق من أزمات متتالية ربما يعزوه البعض لهذا الحاكم أو ذاك أو لتلك الجهة أو غيرها، ولكن في واقع الحال أي دراسة موضوعية ستجعل التعويل على مثل هذه التحليلات ضرب من الخداع للنفس أو للعقل، فكل هذه الأمور هي إفرازات لأزمة أكبر، ومن دون ان تشخص هذه الأزمة علينا أن نتوقع المزيد من إفرازاتها المؤلمة والتي قد تأتي إحداها لتكون بمثابة الطوفان الذي لا يبقي ولا يذر.
لست متشائماً بطبيعتي لأرى الأمور كلها بطريقة سوداوية، ولكني في نفس الوقت لست ساذجاً لأخدع النفس بالصورة المزيفة والمزوقة التي يحاول البعض أن يضفيها على الواقع، فالخراب يعمّ كل شيء، والدمار سمة لكل أوضاعنا، وأسوء ما فيه أننا لا نجد من يعترف بأننا في حالة أقرب إلى الموت السريري منها إلى حالة الانتعاش والنهوض، مع العلم أنني أعتقد جازماً أن شرائط النهوض على العديد من المستويات تتواجد لدينا بشكل واعد، فإمكاناتنا الاقتصادية وطبيعتنا الاجتماعية وقدراتنا العقلية ومكانتنا الجيوبوليتيكية فيه الكثير مما يمكن أن يغرينا بأمل جاد، ولكن هذا الأمل بحاجة إلى الكثير الشاق لتحويله إلى واقع، وشرطه الأول أن يعترف أصحاب القرار أنهم لم يضعوا عجلة العراق على سكة النهوض، وأن ينزلوا من غرور السلطة ليكتشفوا الدمار الذي حققوه وأوجدوه بكفاءة لا تقل عن كفاءة من سبقهم من المخربين، ومن ثم ليدقّوا بشكل صادق دون زيف ولا خداع أجراس الإنذار بأن الأمة في خطر، ومن بعدها لينهض الجميع ويضعوا الأسئلة الصعبة أمام أعينهم بشكل مسؤول، والتي أختصرها: ما هو واقعنا؟ وما هو الحل؟ وكيف السبيل إليه؟
ومن دون ذلك فلا عراقي ليفتخر، ولا عراقي ليتقدم، ولا عراق لينهض، وما من داع ليرفع العراقي رأسه فليس ثمة ما يدعو للإفتخار اللهم إلا البعد المعنوي الذي لا زلنا نحتفظ بخزين يمكننا الاعتماد عليها لننطلق لو توفرت لنا أجوبة تلك الأسئلة.
وللحديث تتمة تأتي إن شاء الله.