كنت في ليلة جرح أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) عام 1427 هـ أستمع إلى قوله بأبي وأمي حين ضرب على هامة رأسه في محراب مسجد الكوفة: فزت ورب الكعبة لمثل هذا فليعمل العاملون... قد ذكرت مباشرة قول بعضهم حين حضرهما داعي الموت: ليتني كنت بعرة، والآخر يقول: ليتني كنت عذرة، فلقد ذكرت بعض مصادر القوم عن أبي بكر قوله حال احتضاره: والله لوددت أني كنت شجرة إلى جانب الطريق، فمر علي بعير فأخذني فأدخلني فاه فلاكني ثم ازدردني ثم أخرجني بعراً ولم أكن بشراً.[1]
وكذا ذكر البيهقي وهناد عن عمر بن الخطاب قوله وهو على فراش الموت: يا ليتني كنت كبش أهلي سمنوني ما بدا لهم حتى إذا كنت كأسمن ما يكون زارهم بعض من يحبون فذبحوني لهم، فجعلوا بعضي شواءً، وبعضه قديداً ثم أكلوني (فأخرجوني عذرة) ولم أكن بشراً.[2]
ولم أملك من نفسي إلّا أن أذرف دمعة على هذه الأمة التي اختار أغلبها هجران درب الخالدين فكانت هذه الكلمات النثرية التي كتبت على عجل، وهي تطلق أسئلة فلسفية عن سر حياة الخالدين، وكيف يكون الإنسان خالداً؟ وتجيب هذه الكلمات على هذه الأسئلة بمشاهد من تاريخ أمير المؤمنين وأبنائه البررة صلوات الله عليهم، قد نعتها بعضهم شعراً، ولكني أنفي أن أكون شاعراً، بل هي كلمات انسابت في لحظة توهج عاطفي
من خريف لربيع...
من شماس[3] لوديع
من بياض لسواد
من زفاف لحداد
هو ذا ماضي الحياة...
هو ذا باقي الحياة
هل تراها من حياة؟
أم تراها سبلاً تحدو إلى لقيا الممات؟!!
*****
هل ترى الدنيا بهذا الكذب تبدو؟
أم تراها ترتقي شأوا وتعدو؟
يا صديقي....... أو لا تدري رفيقي؟
إن دنيا هكذا كالزَبد تغدو
بل أراها بحمير الوحش أليق
وأراها لضواري الغاب أسبق
فحمار الوحش مجبولاً لينهق
وذئاب الغاب مفطوراً ليعرق[4]
ولكن...
هل ترى سر الحياة؟
بأدام.. وشراب... وفتافيت الفتات؟
أم حياة هذه صنو الممات؟
*****
بينما كنت رفيقاً للسهادِ
حائر اللب بأحوال العباد
أرمق الطرف بعيداً
أنشد السر التليدا[5]
لهف نفسي أي سر في الدمار؟
أي سر ميز الإنسان من ذاك الحمار؟
ليت شعري طائف من قوم عاد
من قرى صالح أو لوط الأعادي
هم بدنياهم تنادوا ..
وبشقواهم تمادوا..
هل تراهم بعد دنياهم جديدا؟
أم ترى تاريخهم بات نشيدا؟
أم قضى القوم بلا سر الحياة؟
فحياة هذه كالموت بل دون الممات
*****
يا الهي ومرادي هل ترانا إذ خلقنا؟
وكسينا بعد عظم من لحوم ووجدنا
هل لكي ننهي أمانينا ببعرة؟
أم لكي نختم دنيانا بعذرة؟
فلقد علمنا الدهر الخؤون
ولقد أرهقنا غدر المجون
فابتلينا بالذي كانت أمانيه بعذرة
وامتحنا بالذي أخلفه بالكون بعرة
وتساءلنا إلهي هل بذا سر الحياة؟
أم حياة كحياة الطرطرة؟[6]
وأمانٍ كأماني البعررة؟
عافها الكبش بعيداً لبقايا من كرامة
وقلتها حمر الوحش لتنأى من لئامة
وهواها عمر وبذا أنهى الحياة
فحياة مثل هذه...بعرة تبقى يسليها الممات!!!
*****
وأجلت الطرف في عمق الفؤاد
وسبرت الفكر في أعتى العناد
ووجدت السر في نهج الحسين
وعلي ملأ الدنيا بسر الخالدين
هل تريد السير في نهج الخلود؟
وتميط الستر عن حظ الجدود؟
سل علياً: مالذي ناديت إذ حان الممات؟
أبرب الكعبة الغراء أقسمت بفوز في الحياة؟
ودعوت الخلق أن يحذو لمثلك
وجعلت الدهر مطواعاً لرجلك؟
وركلت الذل أن يدنو لظفرك
نزفت منه الدماء.... فرماها نحو أفياء السماء
فبذا رام الخلود .. وبذا هدّ القيود
لم يهادن..
لم يسالم... بل أبى إلّا أميراً للأباة
هكذا سر الخلود...
فعلي مات!! ولكن... اعتلى عُرف[7] الحياة
*****
هذه الدنيا صراع وسجال في سجال
ذلها في بعرة تقذفها أست السخال
عزها في همم عالية علو الجبال
ها هو الفصل بما بين سخال ورجال
فعلي دربه يدعوك كي تبقى الحياة
بيد أن الفجر لا يبزغ في بغي العتاة
وسمير الدهر لا يبقى سميراً للجفاة
وحقوق الآل لا تُنشَدُ من أرض فلاة[8]
وشيوع الحق سعلاة[9] بلا سهم الكماة[10]
غير أن المجد كل المجد يبقى للأباة
للذي يسعى دؤوباً...
فيكابد
...ويجاهد
ثم يسمو عالياً علو الجبال
كالرجال
ليزيل الشوك من درب الحياة
ويدير القيد في عنق الطغاة
هو ذا المجد.. جنان وخلود... للأباة
[1] مصنف ابن أبي شيبة 7: 91، وقيب منه رواه هناد بن السري في كتاب الزهد 1: 258 ح449..
[2] شعب الإيمان 1: 485، والزهد 1: 258 ح449، وانظر أيضاً كنز العمال 6: 345
[3] الخيل الشموس: الخيل الصعبة
[4] العرق: هو العظم بلحمه، فإذا أكل لحمه قيل عُراق.
[5] التليد القديم.
[6] الطرطر، والطرطور: الوغد الضعيف.
[7] عرف الشيء أعلاه وأشرف موضع فيه.
[8] الأرض الفلاة: القاحلة
[9] السعلاة كائن أسطوري
[10] الكماة جمع كمي وهو الفارس الشجاع المتستر بسلاحه